كيف يمكن التسليم بصدور الشر و الظلمة و النقص من ذات كلها خير و نور و كمال، فبناء على مبدأ العلية الذي يقضي بالسنخية بين العلة و معلولها فغن الكامل لا يصدر عنه إلا كامل و الخير المطلق لا يصدر عنه إلا الخير هذا من جهة ، و إذا برأنا ساحة الواجب تعالى من أي شر أو نقص ، فهل يعقل أن يكون للشرأو النقص مبدأ غيره ، و هذا محال تعقله لأنه يفضي إلى الإقرار بتعدد الواجب و بالتالي يتناقض مع لاتناهي الواجب الذي لا يمكن إلا أن يكون واحدا بمقتضى اللاتناهي وهو المعبر عنه في التوحيد بالوحدة الحقيقية اللاعددية.
لنعود إلى الأسئلة في بساطتها ، فما تفسير الشر الموجود في العالم و ما مبدؤه؟ ثم أليس من الأفضل أن يكون العالم خاليا من الشرور و النقائص؟
لحل هذه الأسئلة لابد لنا أولا من تقديم توضيح حول مفهوم العرفي للخير و الشر، ثم نقوم بالتحليل الفلسفي لهما.
لاستيعاب معنى الخير و الشر في المحاورات العرفية نستطيع الاستفادة من التدقيق في الخصائص المشتركة بين مصاديقهما الواضحة ، فمثلا تعد السلامة و العلم و الأمن من مصاديق الخير الواضحة، و يعتبر المرض و الجهل و اللاأمن من المصاديق الواضحة للشر ، ولا شك أن ما يؤدي إلى اعتبار الإنسان شيئا ما خيرا أو شرا لنفسه هو المطلوبية و عدم المطلوبية، أي كلما وجد شيئا يتفق مع رغباته الفطرية سماه خيرا ، و أينما لاحظ شيئا مخالفا لرغباته الفطرية سماه شرا، و بعبارة أخرى : لانتزاع مفهوم الخير و الشر لابد له من الوهلة الأولى من المقارنة بين رغبته و الأشياء، فإن وجد علاقة إيجابية عد ذلك الشيء خيرا، وإن لاحظ أن العلاقة سلبية اعتبر ذلك الشيء شرا ... و بهذا الشكل يصبح الخير مساويا للمطلوب لكل موجود – بناء على هذه القاعدة – و الشر مساويا لغير المطلوب لكل موجود .
و نواجه في هذا المجال إشكالا وهو أنه أحيانا يكون أحد الأشياء مطلوبا لنوع من الموجودات و غير مطلوب لنوع آخر منها، فمثل هذا الشيء أيعد خيرا أم شرا؟
و الجواب على هذا الإشكال هو أن هذا الشيء المفروض يعد خيرا للنوع الأول و شرا للنوع الثاني .
و لاينحصر استعمال الخير و الشر في المحاورات العرفية بالذوات و الأشياء، بل يجري في مورد الأفعال أيضا، فبعض الأفعال تعتبر خيرا و البعض الآخر شرا، و بهذه الصورة يطرح مفهوم الخير والشر و الحسن و القبيح في مجال الأخلاق و القيم ، و من هنا تنشب معركة الآراء بين فلاسفة الأخلاق في تبيين المفاهيم القيمية و تعيين معيار الخير و الشر الأخلاقيين.
لكي يكون لنا تحليل دقيق للخير و الشر من وجهة النظر الفلسفية لابد من الإلتفات إلى عدة ملاحظات :
- - 1 إن الأمور التي تتصف بالخير و الشر تكون من إحدى الجهات قابلة للتقسيم إلى فئتين؛ إحداهما تلك الأمور التي لا تقبل خيريتها و شريتها التعليل بشيء آخر مثل خيرية الحياة و شرية الموت، والفئة الأخرى تشمل الأمور التي تكون خيريتها و شريتها معلولة لأمور أخرى مثل خيرية الأشياء المؤثرة في استمرار الحياة و شرية ضدها.
و في الواقع فإن خيرية الأفعال هي أيضا من قبيل الفئة الثانية لأن مطلوبيتها تابعة لمطلوبية غاياتها و نتائجها .
-2 إن جميع الميول و الرغبات الفطرية هي غصون و فروع لحب الذات، وكل موجود ذي شعور لما كان محبا لذاته فهو يحب بقاءه و كمالاته، و من هنا فهو يرغب في الأشياء التي تؤثر في استمرار حياته أو في تكامله.
و بناء على هذا فالمطلوب بالأصالة هو نفس الذات و كمالاتها، و مطلوبية الأشياء الأخرى هي بسبب ما لها من تأثير في تأمين هذه المطلوباتالأصلية . و هكذا المالمنفور بالذات فهو فناؤه و نقص وجوده و كون الأشياء الأخرى منفورة هو بسبب ما لها من تأثير في حصول المنفور بالذات .
و بهذا الشكل نظفر بوجه واضح لتعميم الخير و الشر إلى الكمال و النقص ومن ثم إلى الوجود و العدم... لأن كمال كل شيء ليس سوى مرتبة من وجوده ، و بالتالي فإن أكثر الخيرات أصالة لكل موجود هو وجوده ، و أكثر الشرور أصالة لكل موجود هو عدمه.
- 3 كلما توقف وصول موجود إلى كماله على شرط عدمي (عدم المانع) فإنه يمكن عد ذلك الأمر العدمي جزءا من أجزاء العلة التامة لحصول الكمال المفروض، و من هذه الجهة فهو يعد خيرا لمثل هذا الموجود ، و بالعكس كلما كان نقص موجود معلولا لمزاحمة موجود آخر فإنه يمكن عد الموجود المزاحم شرا له، و لكنه من وجهة النظر الفلسفية الدقيقة يعتبر اتصاف الأمر العدمي بالخير و كدا اتصاف الأمر الوجودي بالشر اتصافا بالعرض، لأن الأمر العدمي قد اتصف بالخير من جهة أنه قد استند إليه بشكل ما كمال موجود آخر . إذن الخير بالذات هو ذلك الكمال الوجودي ، و الشر بالذات هو ذلك النقص العدمي ، فمثلا السلامة خير بالذات و عدم جرثومة أحد الأمراض خير بالعرض ، و الضعف و المرض شر بالذات و السموم و الجراثيم شر بالعرض