فلسفة الأخلاق
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فلسفة الأخلاق

التسامح والمواطنة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 من الحوار إلى الشراكة بين الحضارات

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
شريف الدين

شريف الدين


عدد المساهمات : 42
نقاط التمييز : 55860
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 23/01/2009
العمر : 59

من الحوار إلى الشراكة بين الحضارات  Empty
مُساهمةموضوع: من الحوار إلى الشراكة بين الحضارات    من الحوار إلى الشراكة بين الحضارات  I_icon_minitimeالأحد يوليو 11, 2010 1:53 am

من الحوار إلى الشراكة بين الحضارات
مارينا ف. بوبوفا (مستعربة روسية)

من الموضوعات الأساسيّة التي تشغل اهتمام عدد كبير من الدول والمفكّرين والفعاليّات الدينية والسياسية هي موضوعة الحوار لا بل الشراكة بين الحضارات. ومرد هذا الإهتمام البارز والدينامية النشيطة لعلّه يرجع في العقود الأخيرة كردة فعل على الطاقات المدمّرة التي تتمسّك بالمفاصل الأساسية للمال والسلطة والقوّة والمعرفة في بلدان وما يسمّى بالمحور الذهبي حيث يأتي هناك هؤلاء المنظّرون القابعون في الغرف المظلمة ليرسموا الإستراتيجيّات العقائديّة والعملية لتأجيج كلّ أنواع الصدامات، النزاعات في الترب الرخوة التي تحمل في بواطنها بوادر النزاعات بين الثقافات والمذاهب والخيارات في البلدان التي تعيش حالات تأخر وضعف حضاري في تركيبتها.
وهكذا فإنّ موضوعة الحوار والشراكة التي تشغل الذات المفكّرة في معظم بلدان العالم تجهد من أجل خلق مساحات واسعة وثقافة عميقة بين مختلف الحضارات والأديان والمعارف... علَّ عالمنا يصل إلى مناخ يغلب عليه التفاعل الثقافي الإيجابي والتعاون والشراكة العادليين على مجمّل المستويات الحياتية. والذي يجعل التفاؤل يدخل عقولنا ونفوسنا هو انعقاد المثات من المؤتمرات والملتقيات الدولية والمحليّة، وإصدار الكتب في معظم لغات العالم، وتأسيس المراكز الخاصّة في الجامعات والمعاهد وضمن مؤسّسات المجتمع المدني الساعية لتنشيط هذا الحراك العالمي.
ولكوني من المتابعين عن قرب لهذه الحركية الدولية من موقع نشاطي في أكثر من مؤسّسة روسيّة ودولية، وبحكم تخصّصي في ميدان الإستعراب، فإنّني أتابع بإهتمام خاص، بل لا بشغف، مجمل ما ينظم ويكتب حول هذه الموضوعات في المدى الروسي والمدى العربي – الإسلامي.
والذي لفت نظري في هذا المنحى هو الجهد الملحوظ الذي يقوم به عضو أكاديميّة التعليم الروسية، وأستاذ فلسفة الحضارات في كلّ من الجامعة اللبنانية وجامعة موسكو، رئيس البيت اللبناني – الروسي، الدكتور سهيل فرح. فهو الذي قام بتنظيم خمس مؤتمرات دولية حول الحوار بين الحضارات وبالذات بين روسيا والمشرق الغربي. قام بنشر عشرات الكتب ومئات الأبحاث في اللغتين الروسية والعربية وترجمت أبحاثه إلى أكثر من لغة أجنبية. الأمر الذي جعله حاضراً وبشكل شبه دائم في المنتديات الدولية حول الحوار والشراكة بين الحضارات. وكتاباته التي يتلقفها القارئ الروسي والعربي، أضحت معروفة إلى مدى أبعد بكثير من هذين المجالين الحضاريين. يكفي أن أذكر بأنّ سلسلة " حوار الحضارات " التي تصدر عن وزارة التعليم والبحث العلمي في روسيا وكذا عن ثلاث جامعات روسيّة، صدر منها حتّى الآن ثلاث مجلّدات، والتي تضمن كتابات مفكّرين وديبلوماسيّين ورجالات دين وفن وإقتصاد من القارات الخمس. ولكون للدكتور فرح المساهمة الأبرز في الكتابة فيها، وهو الذي يشرف عليها ويديرها، فهذه السلسلة أضحت تشكّل مرجعاً من المراجع الأساسيّة للمهتمّين في العلوم الإنسانية ولصنّاع القرار عندنا... ونشاط الدكتور فرح لم يتوقّف في هذا السياق عند القارئ الروسي، بل أراد أن ينقلها إلى القارئ الغربي، وهو في قيد التحضير لنقلها أيضاً إلى القارئ القاطن في المدى الفرانكفوني والأنجلوفوني.

ولكون المجال لا يسمح هنا للتوسع في تقييم حتّى أبرز الأفكار والعناوين الذي يتضمّنه مشروعه الحياتي وسلسلته في علم الحوار والشراكة بين الحضارات. فإنّني أكتفي في هذه العجالة من الكتابة أن أتوقّف عند الفكرة الأساسية وأهمّ المبادئ والإستنتاجات للعملين الأخيرين اللذين أصدرهما الكاتب في اللّغة العربية عن دار علاء الدين في سوريا في عامي 2009 و 2010: الكتاب الأول حمل عنوان: " حوار الحضارات: المعنى، الأفكار، التقنيات". والكتاب الثاني: " الحضارة الروسية: أسئلة الهويّة والآخر العربي ".
في الكتاب الأوّل يتطرّق الكاتب من وجهة نظر أنتربولوجية فلسفيّة، سوسيوثقافية وأكسيولوجية لمفاهيم الحضارة الكوكبية والعالمية والمحليّة، يتوقّف عند واقع ومستقبل القيم في زمن العولمة، وعند إشكالية التفاعل بين حضارات الشرق والغرب إلاّ أنّه يولي إهتمامه إلى موضوعات التفاعل الديني والثقافي في روسيا والمشرق العربي وإلى آفاق تطوّر الحوار بين الحضارتين العربية والروسية.

نقطة أوميغا هذا الكتاب هو التحفيز الفكري والعملي على تنشيط حركية ثقافة الحوار بين الحضارات والأديان والمعارف المختلفة... ورغم إنّني أميل أكثر إلى أن يعطى لهذا النشاط عنوانا أو بعداً آخراً وهو الشراكة والتحالف بين الحضارات...
فالدكتور فرح يعيب على الباحثين وبالذات الذين يستفيدون من حالة القوّة التي تتميّز فيها الحضارة الغربية في عدد من عناصر مكوّناتها المعاصرة، يعيب عليهم التركيز الخاص على فكرة الصراع بين الحضارات. والمحاولة المستمرّة لإعادة رسم صورة " العدو " في مخيّلتهم في كلّ حقبة. والعمل على تكريس الأفكار المنمطة عن ذاتهم الثقافية والروحية والذات الثقافية والدينية للآخرين. والسّعي لعرقلة جهود الأونسكو في دعم ظاهر التنوّع الثقافي في العالم. يسعى لتفكيك كلّ العمارة العقائديّة التي بنيت عليها الفلسفة الداروينية الإجتماعية والبرغماتية – والفردانية في الغرب، تلك التي جعلت من القوّة والمنفعة والأنا الفردانية آلهة تعبد... وهذه الفلسفة المتغلغلة في أعمق أعماق الشرايين الدماغية للذين يستحدثون التكنولوجيّات المدمّرة ويستفردون بثروات الكوكب ويفبركون عقول وأذواق الناس في كلّ مكان، قليلاً ما يهمّهم مخزون الثقافات العريقة وحالة التنوّع الثقافي والديني وحاجيات الشعوب المتعدّدة في محور الشمال ومستقبل القيم... كلّ الجهد منصبّ من أجل وقد فكرة الصراع بنار جديدة من أجل ألاّ يكون هناك من مكان قويّ وحقيقي لحاملي خطاب الحوار والتفاعل والتعاون والشراكة الحقيقيّة بين حضارات شعوب الشرق والغرب معاً.
فالكاتب يقع على الضفّة الأخرى مع مجمل الطاقم الجماعي الذي يتعاون معه فهو يطرح على القارئ القاطن في محور الشمال والجنوب مجموعة من الأسئلة منها يحمل طابعاً كوكبياً عاماً وأخرى تحمل طابعاً روسياً وعربياً إسلامياً. ومن الأهميّة بمكان التوقّف عند بعضها:
ففي مقدّمة كتابه الأول يشير إلى أربعة عشر سؤال أختصرها من جهتي على الشكل التالي:

1- ما هي الطاقات المطلوبة التي تفرض على سكّان هذا الكوكب أن يعملوا بنشاط مكثّف وقبل فوات الأوان من أجل الحفاظ على التنوّع البيولوجي الحيّ بين كلّ أنواع الكائنات على هذا الكوكب ؟

2- هل يشكّل التنوّع الثقافي والحضاري مصدراً دينامياً للتنمية الإقتصادية والأخلاقية والروحية، أم مصدراً للتشتّت والفردانية والإنطوائية وبالتّالي للتعصّب وإستبعاد الآخر وصولاً إلى إرهابه ؟
3- هل التنوّع الثقافي وبالتّالي التعدّد الإثني والديني – المذهبي، والفكري في كلّ من روسيا والمشرق، هو مصدر نعمة أو نقمة، لهاتين المجموعتين الحضاريتين ؟

4- ما هي السبل الواقعيّة والناجحة، بالكلمة والصورة، التي تخلق القاعدة الصلبة والمستمرّة للتعاون بين الطاقات المتنوّعة والمتعدّدة في كلّ من روسيا والمشرق العربي، لا بل في كلّ الحضارات المتضرّرة من خطر التوتاليتارية المعولمة التصادمية الجديدة، الهادفة إلى كسر إحتكار تداول الأفكار من جهة واحدة ؟

5- كيف يمكن تحاشي تحويل الثقافات المحليّة إلى ثقافات متحفية، غير حيّة، أمام خطر طوفان الجانب العدواني في العولمة. تلك التي تسعى لإطالة عمر سيطرة " الشمال " أو ما يُسمّى بمحور المليار الذهبي على حساب حالة البؤس والشقاء التي تعيشها معظم الشعوب المنتمية إلى ما يسمّى بـ " الجنوب " ؟

6- كيف يمكن تهيئة الظروف الملائمة لأن تكون جميع الثقافات في روسيا والعالم العربي والإسلامي، وعلى المستوى الدولي، حاضرة في وسائل التعبير والنشر، بشكل يؤمّن لها المساواة في فرص الوصول إلى المعارف العلمية والتقنية بما فيها المعارف المعلوماتية والرقمية ؟

7- ما هي آفاق السياسات المادية والثقافية التي تنتهجها الحكومات المتضرّرة من العوامل السلبية للعولمة الثقافية من أجل الحفاظ على معنى وروح الهويّات الحضارية للشعوب ؟

8- كيف يمكن توفير الدعم المادي والمعنوي للطاقة المبدعة وفي كلّ المجالات في تلك البلدان من أجل تحفيزها لإنماء ثقافاتها وإنتاج قيم مادية وحضارية جديدة ؟

ويكمل الكاتب طرح العديد من الأسئلة الأخرى محاولاً رسم خارطة طريق علميّة للناشطين في تعميم وتعميق ثقافة الحوار بين الحضارات وبالأخصّ حالة الحوار المنشودة بين روسيا والعالم العربي والإسلامي. وهو يعتبر بأنّ الأسئلة كبرى والمهام ضخمة جداً. وليس من السهولة بمكان حتّى الجواب على البعض منها فهي أسئلة ومهام تشغل العالم بأسره، وتحتاج إلى جهد جماعي للحكومات والأكاديميّات والجامعات وكلّ مؤسّسات المجتمع المعرفي، علّها تفتح نافذة أمل لخيارات حرّة وعادلة للحضارة الإنسانيّة على كوكب يعيش حالة من الغموض والتشاؤم والأزمات الكثيرة. من هنا يعتبر أسئلته هي أقرب إلى طرح الإشكالية ضمن تصوّر فلسفي وإشارات عملية لا تدعي لا الشمولية ولا حتّى الإجابة الشافية للمتعطّشين للوصول إلى برّ الأمان.

بيد إنّ هذا الطرح وتلك الأسئلة التي شغلته وتشغل اهتمام 36 مفكّر من القارات الخمس قدموا أوراقهم في هذا الكتاب الذي يقع وفي حوالي 426 صفحة من الحجم فوق المتوسط، لم يعفيه من أن يقدم هو وزملائه العديد من الرؤى ويشير إلى عدد من الآمال التي تفتح المجال للمزيد من التفاؤل، والتي يمكن إختصارها بالأفكار التالية:

أولاً: أمام الأزمات المتتالية التي يعيشها الكوكب على مختلف الصعد الإقتصادية والسياسيّة والأمنية والثقافية والدينية والروحية لا مخرج إلاّ بأعمال العقل العلمي المتنوّر، متناغماً ومتواصلاً مع العقل الديني المتنوّر من أجل تأسيس خطاب نيو-إنساني جديد مرتكز على الحوار والشراكة والتعاون بين الحضارات.

ثانياً: إنّ البشريّة بأكملها تعيش منعطفات درماتيكيّة كبرى لم تشهدها في كلّ تاريخها: إمّا الإنهيار الشامل في مجال تأجيج الصدام بين الحضارات، أو الإنبعاث والإزدهار في حال تضافر جميع القوى لخلق ظروف ملائمة للشراكة العادلة. والمسؤولية لا تقع على عاتق الحكومات وصنّاع القرار في أمكنة مركز القرارات، بل على عاتق كلّ إنسان يعيش على هذا الكوكب.

ثالثاً: رغم إنّ صورة الصدام والنزاع والحروب تطفو على سطح الأحداث وتجعل معظم الناس يميلون إلى التشاؤم حيال حاضر ومستقبل الحضارة الإنسانية، فإنّ هناك صورة أخرى حيّة تعيش إلى جانب تلك الصورة الرماديّة، وهي التي تحرص على خلق الظروف الموضوعية والذاتية لرجحات كفة التفاؤل بالمستقبل. تلك التي تعمل من أجل التعاون واللّقاء والتفاعل بين كلّ الثقافات البشريّة، والتي ترتكز على أساس المدخل العادل لحلّ نقاط الخلاف والنزاع في العالم. وتعمل على نزع فتيل الحروب الفتّاكة. ودرء الكوارث الإيكولوجية والتكنولوجية والديموغرافية. وحلّ مشكلات الجوع والفقر والأمراض الخطيرة. وتنشط من أجل تغيير الخارطة الإقتصادية والعملية وتبادل المعلومات، والمعارف وجعلها أكثر إنسانيّة. وترتكز في حملتها الفكرية والإعلامية على تربية أجيال القرن الحادي والعشرين في مناخ ثقافي عالمي جديد، يركز على صورة الشريك الفاضل والعادل والمحبّ والخير، والإبتعاد عن صورة العدوّ والمزاحم الشرّير والقاصر والبغيض.

يشير في كتابه هذا أيضاً إلى عدد من المؤشّرات المستقبلية التي يمكن على أساسها أن تبنى علاقة تحالف إستراتيجي بين روسيا والعالم العربي والإسلامي مبنية على ثقافة الإحترام والثقة والتعاون والتناضح الحضاري الذي يمكنه أن يشغل مجمل مكوّنات المشهد الحياتي للذين يعيشون في هذين العالمين...

إنّ الصورة التي ينقلها الكاتب فرح لحالة ومستقبل الحوار هي بلا شك جديرة بالدّعم المادّي والمعنوي على كلّ المستويات الحكوميّة، وغير الحكومية، إلاّ إنّني وفي هذا السياق بودّي أن أضيف إلى أفكاره بعض المقترحات التي تكمل برأي التوجّه العام الذي يرسمه المؤلّف لمشروعه، وألخّص ذلك بنقطتين أساسيّتين:
الأولى: إنّ الحوار الذي يتوجّب أن يتوسّع ليطال سائر مجالات الحياة، يبقى ضمن الإطار التأسيسي النظري لتبادل الآراء ولتزايد وتعميق المعارف عند كلّ طرف عن الآخر، بيد إنّ الخطوة الثانية التي ينبغي التركيز عليها أيضاً هو حمل المتحاورين الذين ينتمون إلى ثقافات وأديان ومعارف مختلفة إلى مرحلة ثانية تساعدهم لكي يبنوا العلاقة على أساس الشراكة التامّة لا بل التعاون والتحالف بين كلّ حضارات الكوكب.

والثانية: بأنّه حتّى الحوار نفسه الذي يشكّل نقطة الإرتكاز في فلسفة المؤلّف س. فرح لا يمكنها أن تكتمل ما لم نشرك فيها كلّ الحضارات وكلّ الأديان وكلّ الناس غير المتدينين. فعلى المستوى الديني مثلاً يتوجّب ألاّ ينحصر أو يتمّ الحوار بين المسيحيّين والمسلمين، بل أن يتوسّع ويتعمّق ليطال البوذيّين واليهود وسائر الأديان والمذاهب غير التقليديّة.

ممّا لا شكّ إنّ هذا العمل يؤسّس لمعرفة بالحضارات والعلاقة فيما بينها، تحمل معاني جديدة ومؤشّرات مستقبلية فيها شحنة قويّة من التفاؤل في غد يكون فيه للجانب النوراني والإبداعي والأكسيولوجي الحصّة الأكبر في صنع وعي وممارسات الأفراد في حياتهم اليوميّة.

وهذه كلّها أمور يمكنني أن أشاطره الرأي لا بل الحماس فيها وحولها. إلاّ أنّ المسألة التي غابت عن مجمل طروحاته، هي الرافعة المالية والسياسية لهذا المشروع الكوني... فبدون جذب إهتمام وإدخال هاتين الفئتين فمن الصعوبة الكبرى بمكان أن تتحقّق أمنياته وأمنيات كلّ الطامحين والحالمين بذاك الغد الأفضل.

في الكتاب الثاني: " الحضارة الروسيّة أسئلة الهويّة والآخر - العربي "، في الباب الأول يتطرّق إلى المسائل التالية: ماهية وخصائص الحضارة الروسية، البعد الديني في الشخصيّة الروسيّة، البعد السياسي في الجيوبولتيك الروسي، الخيال والخلق الروسي، سؤال الثقافة والمثقّف في المشهد الروسي.
وفي الباب الثاني يتناول موضوعات بداية الإهتمام الروسي بالعرب، عبر تأسيس المؤسّسات الأكاديمية - الإستشراقية، وصورة الثقافة العربية عند الروس، ونقاط التمايز والتناغم بين الحضارتين الروسية والعربية - الإسلامية وإمكانية تفعيل حركية الحوار والشراكة بينهما.
ونظراً لوسع الموضوعات، التي قد يتطرّق لها كتاب غيري، فإنّي ألفت الإنتباه بدايةً إلى وجود نوع من الإلتباس حول عمليّة توصيف الحضارة الروسيّة. ففي المجال الفكري عندنا في روسيا كثيراً ما يدور السجال حول " حقيقة " وجود مجموعة حضارية مستقلّة، متبلورة المعالم تحت إسم " الحضارة الروسيّة "، أم إنّ الأمر قد يكون مقاربة لحقيقة توصيف هذه الظاهرة، هو أنّ ذاك التجمّع الفسيفسائي الشديد التنوّع والتعدّد والذي ينتمي إلى إثنيات وأديان ولغات عاشت وما تزال تعيش وتتحرّك على المدى الأوراسي، لم تصل حتّى تاريخه إلى تكون معالم الحضارة المتبلورة المعنى والرسالة. فهذه إشكالية معرفية يصعب، في حقيقة الأمر الجواب عليها بشكل جليّ وقاطع. فالمقاربات مختلفة حولها ويصعب على المرء المحايد أن يتبنّى باهتمام هذه المقاربة أو تلك. وأنا مع الرأي الذي يقول بأنّ هذه " الروسيا " التي تستند إلى موروث تاريخي غنيّ، تمكّنت من أن تعبّر عن نفسها بأنّها جماعة حضاريّة إنصهرت بين جنباتها الأوروبية والآسيوية مجموعة من الإثنيّات والقوميّات، تحلّقت وتوحّدت حول الشعب الرّوسي.
وفي الحقيقة جاءت كنتيجة لنماذج عدد كبير من الإثنيات والثقافات والأديان. لذا فإنّها تتميّز بمعالم الحضارة الشديدة الخصوصيّة، والتي تمكّنت عبر تاريخها الطويل أن تترك بصماتها العميقة ليس على الشعوب التي جاورتها، بل أيضاً على مجالات أوسع لدى السكّان الذين يقطنون خارج هذا المدى.
وفي هذا السياق فمن الأهميّة بمكان أن نرى كيف ينظر الدكتور فرح لهذه الحضارة... فهو يردّ على تساؤلات العديد من المفكّرين الذين يدرسون المدى الروسي داخل روسيا. فيقول بأنّه من الخطأ القول بأنّ معالم الحضارة في المفهوم الفلسفي والسوسيولوجي والتاريخي والثقافي لم تنطبق على " الروسيا ". فهناك حضارة روسية لها بطبيعة الأمر خصوصيّتها، كما غيرها من الحضارات الأخرى المنتشرة على هذه المعمورة، وخصوصيّتها نابعة من مكانها وزمانها ولغتها ونمط تفكيرها وسلوكيّتها. فهي تجمع على حدة توصيفه " بين لوغوس الغرب وضوء الشرق، بين الإشراق الميتافيزيقي – الإلهي والتشكّل العقلاني – الديكارتي. وأنماط سلوك الروس فيها من التنوّع في الممارسات اليومية لناسها، ممّا يجعلها تعيش النمط الآسيوي والأوروبي في مجمل تجلّياته وأفعاله ".
في الفصول الخمسة من الباب الأول للكتاب، وبالإستناد إلى كميّة كبيرة من الأدبيات التاريخية واللّغويّة وإلى العديد من الوثائق والمذكّرات، يقوم بتحليل الظاهرة المكانيّة – الجغرافية التي جعلت مجموعة من القبائل السلافية تستوطن أكبر مساحة من السهوب الأوراسية وأن تؤسّس عليها دولتها التي مرَّ تكوينها في مراحل متنوعة من التوسّع والتقلّص، الإستبداد والعدل، الإنتصار والنكوص، الأمر الذي ترك كلّه بصماته على تكوين الطابع الوطني للروس و الجغرافية الروحية وعلى تكون عقلية بشريّة من نوع خاص.

والأمر الذي يثير الإعجاب والتقدير الكبير هو ذاك الحفر العميق لدى المؤلّف سهيل فرح في أعمال أساطين الفكر والأدب الروسي في القرن التاسع عشر أمثال بوشكين، غيرتسين، دوستويوفنتكي، تولستوي، تشادييف. ووإدراكه وفهمه الجليّ والواسع لمظاهر خلافية على درجة عالية من التعقيد في التاريخ الحديث الروسي كظاهرتي السلفيانوية والغربنة التي عاشتها روسيا والتي كات تهيمن على مجمل معالم المشهد الثقافي للروس في ذلك الزمن وتسهم في تكون الفكر الإجتماعي آنذاك.
والشيء الملفت للنظر هو وسع دراسته وخصوصية تحليله وتقييمه لأعمال مؤرّخين ومفكّرين كبار، أمثال داينلفسكي، خومياكوف، سولوفيوف، بردييف، إيلين. ومفّكرين معاصرين أمثال يستوجيف – لادا، غوميليوف، ليخاشوف وعدد كبير من المفكّرين الآخرين... والمراجع التي ارتكز عليها المؤلّف من الوسع بمكان، بحيث جعلته يحيط بأبرز محطّات تكون الفكر الروسي. والذي أثار إعجابي الخاص، هذا التذوّق الباهر والتماهي العميق في عالم المشاعر والمخيال والوجدان الروسي، حيث يصعب على العديد من باحثينا الذين عاشوا طوال حياتهم هنا أن يقوموا به، بحثه لم يتناول فقط الكتاب الذين عاشوا في الداخل بل إنّ دائرة أبحاثه إمتدّت لتشمل وتحلّل أعمال كتاب المهجر الذين كان هاجس المصير الروسي يسكن كلّ كلمة من كتاباتهم...
وإستناداً إلى هذا المخزون الكبير في المرجعيّات وفي تأويلاته التي يصيغها بأسلوب يجمع بين الفلسفة والأدب والشعر، تمكن من الغوص في البنية العضويّة للعقل الروسي المكوّنة من عناصر متعدّدة ومتنوّعة وإستطاع وبقلم الباحث الموضوعي الرؤيا أن يصل إلى تقديم مستندّ جليّ عن هذا الطابع القومي الروسي، عن نمط تفكيره، عن ذهنيّته وعاداته ومورثة المتنوّع وأن يكشف الطاقة الكامنة الكبرى الذي تعيش في مكامن القوى الروسية.
كما أنّ الفصل الخامس من الكتاب يرتدي أهميّته الخاصة للكشف المعرفي الذي يقول به المؤلّف حول المثلّث الروسي السلطة والشعب والإنتلجانسيا، ويتوقّف محللاً وناقداً كافة المكوّنات التي جعلت من فئة من الإنتلجانسيا, التي عانت حالة إغتراب, تشكل عناصر هدم في الذات الروسية، ويثمن عالياً دور الإنتلجانسيا الوطنية المبدعة التي شكّلت طوال التاريخ الضمير الحيّ لهذه الأمّة الروسية الممتدّة أواصرها على أكبر جغرافيا على هذا الكوكب.

في الفصل السادس والسابع يكرّس الكاتب كلامه لمجمل الحيثيّات التاريخيّة التي رافقت خصائص نشأة وتطوّر الإستشراق الروسي في المرحلة القيصرية والسوفياتية. و الذي كتبه بأسلوب جميل عن إسهام المستشرقين وتحديداً المستعربين الروس هو بمثابة " شهد العسل " الذي يترك مذاقه المعرفي اللذيذ ليس فقط على القارئ العربي والإسلامي عموماً، بل أيضاً على القارئ الروسي نفسه.
فهو يميّز بشكل جوهري بين مقاربات المستشرقين الغربيين ومقاربات المستشرقين المستعربين الروس للثقافة العربية والإسلامية، يبرز المؤلف مجمل نقاط التمايز المنهجية والمعرفية والإيديولوجية والإنسانية بين المدرستين، ويبيّن القواسم المشتركة بين العالمين العربي – الإسلامي والروسي على المستوى الإنساني والروحي...
فالشيء المميّز في دراسته لهذه الإشكالية هو رؤيته التحليليّة العقلانيّة – النقديّة لمجمل الستريويتبات والأفكار المنمطة التي تكدّست لدى المستشرقين الغربيين عن العرب والإسلام. ويبرز بالمقابل جهود العلماء والمستشرقين الكبار، أمثال سنكوفسكي وبازيلي وكريمسكي وكراتشكونسكي وبارتولد وسعدييف وبيريسبكين وسمالينسكايا وغيرهم الكثيرين من الذين حرصوا أن يبرزوا الجانب المشرق في الحضارة العربية الإسلامية. وفي كلّ فصول وبنود الكتاب إشارة من هنا وهنا على ضرورة ليس الحوار والشراكة بين الحضارتين الروسية والعربية – الإسلامية بل التقارب والتحابب بينهنّ.
إنّ هذا الكتاب الذي بين أيدينا لا يحمل في ثناياه فقط فائدة معرفية كبرى، فهو يحتوي في جنباته مواد علمية شديدة الغنى، حول تاريخ وجغرافيا وثقافة المدى الروسي في محطّات تاريخية متنوّعة، يكشف الأضواء على صفحات واسعة من العلاقة بين الحضارتين الروسية والعربية – الإسلامية.
لم أتخيّل كيف استطاع هذا المؤلّف أن يدرّس ويحلّل ويقيم هذا الكمّ الهائل من الكتب والمقالات ومواد الأرشيف، وكيف تمكن من هضمها كلّها وسكب عصارة تفكيره، لا بل روحه فيها... وهذا ما يضيف للمادة المعرفية والعلمية بين العالمين الروسي والإسلامي بعداً جديداً ويحفز على تطوير العلاقات بينهما، ويساعد على توسيع وتعميق التحالف بين عالمين يحتلاّن أهميّة خاصة في العلاقات الدولية.

من أسطر الكتاب تفوح حرارة وجدانية مكثّفة وشعور بالألم لعذابات ومآسي الشعبين، وتبرز كم هي رحبة روح المؤلّف، وكم هو حبّه للعالمين كبيراً بدون أن يحسب لذلك أيّ حساب برغماتي.

من الأهميّة الكبرى بمكان أن نكون نحن الروس جيران للعالم العربي والإسلامي. وهذا ما أتاح منذ غابر العصور الإمكانية للرحالة والتجّار أن يتبادلوا الخبرات والبضائع والمعارف عن بعضهما البعض وبطريقة مباشرة دون أيّ وسيط. وتمكنوا من أن يطوّروا العلاقة بينهم على أكثر من مجال، بما في ذلك المجال الديني. وهذه العلاقات تمتنت أواصرها خلال مئات السنين.

في هذا السياق يبيّن الكاتب الكثير من القواسم المشتركة على مستوى القيم الدينية والمفاهيم الفلسفية للوجود وللثلاثية الكونية الله والطبيعة والإنسان في العالمين، ويؤكّد على أهميّتها الكبرى وعلى ضرورة توظيفها لمصلحة البشر الذين يتعايشون على هذا المدى الكبير.

وفي ختام حديث المؤلّف عن هذه الموضوعات يعتبر بأنّه ورغم تكريسه في السنوات الأخيرة القسم الأكبر من طاقته الأكاديمية وأبحاثه حول دراسة الحضارة الروسية، إنّه لم يرى في أعماله الماضية وفي هذا المؤلّف الأخيرة اللا تمرين أولي ومقدّمة عامّة في دراسة حضارة من أعرق وأغنى الحضارات على هذا الكوكب. ففي بواطن هذه الحضارة طاقات كامنة يصعب كشف أغوارها وأسرارها. فكلّما فتح باب معرفي أمامك، يبرز باب ثانٍ وثالث ورابع ينبغي كشف ملامحه وأبعاده وأغواره.

فالعمل الذي يعتبره المؤلّف نتاج سنوات عديدة من التأمّل والتفكير هو حصيلة تناغم صوت العقل وحرارة القلب، عين الناقد ومشاعر الفنّان. فيه رحلة فلسفيّة – شاعرية طويلة في العقلية الروسية والطابع الوطني الروسي والمدى الروسي في عدد كبير من أبعاده.
يقول المؤلّف: لقد فتحت أمام عين وأذن القارئ، صفحة واحدة " في عالم روسي لا حدود لعالم مشاعره وفتوحاته في الأرض والسماء ". وآمل أن أتمكّن من فتح صفحات أخرى مع زملاء لي في الشرق والغرب، يغرفوا من محيط حضاري لا حدود لإمكانياته وطاقاته، ولا حدود لخطاياه وثغراته... إنّه شعب " نهايات الأشياء " كما يشير إلى ذلك الفيلسوف الروسي الكبير نيكولاي بردييف. إلاّ أنّ هذا الشعب المليء بالأسرار والمآسي والإنجازات في كلّ مجالات العلوم والحياة يكنّ صداقة لا حدود لها للشعوب المسالمة على هذا الكوكب، بما في ذلك الشعوب العربية والإسلامية.

بكلمة يمكنني أن أقول بأنّ هذا العمل ليس مفيداً فقط للقارئ العربي، بل إنّ فائدته كبرى للقارئ الروسي، لأنه يساعدنا من وجهة نظر عالم مرموق ينظر بموضوعية وعين ناقدة ليس فقط لواجهة المشهد الحضاري الروسي، بل يغوص بعيداً إلى أغواره، الأمر الذي يدفعني لأنّ أرشّحه لأن يترجم إلى اللغة الروسيّة.
فمثل هكذا أعمال تسهم لا محال في تغذية ثقافة الحوار والشراكة بين الحضارات...

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
من الحوار إلى الشراكة بين الحضارات
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» سهيل فرح: الحوار الجمالي والروحي بين الحضارات (7 جوان 2009)
» حوار الحضارات بأي معنى؟
» كلمة في كتاب حوار الحضارات للدكتور سهيل فرح

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
فلسفة الأخلاق :: إعلانات و أنشطة مشروع فلسفة الأخلاق :: المنشورات :: مقالات إعلامية-
انتقل الى: