مدخل لتأمل المصطلح والمعايير المزدوجة:
لا شك في أن القرار الذي صدر عن هيئة الأمم المتحدة عام 1948، حول حقوق الإنسان يرتدي أهمية تاريخية بالنسبة لكل شعوب العالم. فاذا كان من انجازات الفكر الليبرالي الديموقراطي الغربي تأكيده على الحقوق المدنية والسياسية، وعلى المساواة بين الجنسين وعلى حقوق الحرية في الفكر والمعتقد الديني والسياسي والاجتماعي، وعلى مساواة الجميع أمام سلطة القانون، وعلى عدم المس بالحرية الفردية والتملك، فإن هذا يعتبر انجازاً تاريخياً لخيرة العقول الحرة والطاقات المتمردة على الاستبداد التي طلعت بها الثورة الفرنسية والفكر الديموقراطي الانكلوساكسوني.
وجاءت الثورات الاخرى في بلدان اوروبا الشرقية، وفي العديد من بلدان العالم لتضيف لبنة جديدة هامة لحقوق الانسان، مؤكدة على حقوق أخرى لم يتطرق الجيل الاول لها من مناصري حقوق الانسان، وهو الحق في العمل والسكن، والمساواة في الاجور بين الجنسين، والتأكيد على مكافحة التميز العنصري والقومي، ورفض الاتجار بعمل وصحة وجسد الاطفال والنساء وضمان حقوق العمل والتقاعد والضمانات التعليمية والصحية.
وطلع الجيل الثالث من الذين نظروا الى حقوق الانسان، ليركزوا على الحرية الفردية وعلى عدم خلق أية روادع اخلاقية أو دينية أو روحية تحول دون ممارسة الحرية الفردية بأوسع ما لهذا المصطلح من حدود. هذا التصور شكل العنوان الابرز في هذا السياق للفكر الراديكالي الليبرالي الاوروبي والغربي المعاصر وارتكز على المقاربة العقلانية والعلمانية الصارمة لمفهوم حقوق الانسان.
حاولت هذه المقاربة أن تحدث قطيعة إبيستمولوجية شاملة مع المفهوم الديني الكلاسيكي والموروث الثقافي الاوروبي نفسه والعالمي حول مفاهيم الاخلاق الفردية والجماعية، الخير والشر، الخطيئة والعقاب، الايمان والالحاد. بكلمة أرادت هذه النظرة الفلسفية باسم النظرة الفلسفية الثورية الليبرالية والنظرة الاشتراكية الماركسية أن تحصر كل البعد الانساني في دائرة المجتمع الملموس الذي يحركه النشاط الانساني في عالم متطلباته الغرائزية والنفسية والعقلية، ولا يخضع لأية مشيئة أو ارادة سماوية أو ميتافيزيقية، ويعتبر أية رؤية أخرى هي مخلفات النظم المعرفية والدينية والثقافية البائدة.
وخرجت الرؤية الليبرالية الغربية ومعها الرؤية المادية على اختلاف أطيافها عن المبادئ والأسس التي صاغها الجيل الاول من المفكرين والسياسيين الذين ارسوا القواعد العامة والمثل الانسانية الشاملة لمفهوم حرية المعتقد ولحقوق الانسان بصرف النظر عن انتمائه الفكري أو الديني أو العرقي أو الحضاري. حتى إن النقطة المركزية التي اعتمد عليها الفكر الليبرالي في خطابه السياسي وهي الديموقراطية، أضحى الحديث حولها والتفحص في تطبيقاتها من الامور المشكوك في صدقيتها.
فبدأت تظهر على سطح النظريات والممارسات في أكثر من بلد اوروبي وغربي الكثير من الخروقات والممارسات التي تؤكد بأن النظرة الى حقوق الانسان والى كل مشتقاتها هي مزدوجة المعايير، وفيها قدر كبير من الرؤية النرجسية للذات. فحقوق الانسان ومعها الديموقراطية لم تعد بالصفاء نفسه داخل المجتمعات الاكثر عراقة في الديموقراطية. فهي في كثير من الدول تبدو منقوصة في الداخل وديكتاتورية في الخارج. ويكفي ذكر سلسلة القوانين لتكريس العديد من الافكار المنمطة التي تفرزها المخيلة الاميركية والاوروبية حول الاسلام والمسلمين، وحول العالم الارثوذكسي والسلافي، وايضاً حيال اليهود والصينيين وسائر الشعوب التي لم تدخل في عميق النسيج الحضاري للمدى الغربي.
كما إن أي تمرد على من يسيّر لعبة الهيمنة للأقوى وأي اصرار على الخصوصية الحضارية والدينية لدى هذه المجموعة أو تلك يلمس المراقب نتائجه في ردة الفعل غير الودية لا بل العدوانية عندهم... هذا مع العلم إن كل الاعراف والقوانين الدولية تؤكد على حرية المعتقد وحرية الاختلاف وعلى المساواة الحقيقية بين بني الانسان بصرف النظر عن انتماءاتهم المتنوعة.
- بعد ردة الفعل الروحانية البشرية على التطرف المادي والغريزي وعلى ازدواجية المعايير في كل شيء، طلعت المتخيلات الاجتماعية للشعوب وصعد "المارد" الروحاني من قمقمه فشهدت السنوات العشر الاخيرة عدداً كبيراً من الندوات والمؤتمرات حول النظرة الارثوذكسية الروسية لحقوق الانسان، لعل أبرزها مقررات المؤتمر العاشر للمجمع الروسي العالمي الذي عُقد في موسكو في نيسان 2006، ومؤتمر آخر نظمه الاتحاد البرلماني الارثوذكسي العالمي في اكاديمية الخدمات الحكومية للرئيس الروسي في موسكو في 22 تشرين الثاني من عام 2006. المؤتمرون الذين مثلوا النخب الدينية والمدنية من المدى الروسي والارثوذكسي العام، حاولوا أن يركزوا على المقاربة الارثوذكسية لفهم الانسان وحقوقه. ولعلاقة الذات الانسانية بالزمني والازلي - السرمدي.