فلسفة الأخلاق
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فلسفة الأخلاق

التسامح والمواطنة
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 أى دمٍ قد أعاد كتابة التاريخ العربي(*)! حازم خيري

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 82
نقاط التمييز : 55804
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 07/01/2009

أى دمٍ قد أعاد كتابة التاريخ العربي(*)!  حازم خيري  Empty
مُساهمةموضوع: أى دمٍ قد أعاد كتابة التاريخ العربي(*)! حازم خيري    أى دمٍ قد أعاد كتابة التاريخ العربي(*)!  حازم خيري  I_icon_minitimeالجمعة مايو 20, 2011 1:46 pm

إن المجتمع ـ الموجّه ـ يبدو وكأنه

لا يقبل الشك، وهنا تكمن المُشكلة، إنها

الولع في التبرير وتصديق أي شيء"

دوستويفسكي



ما المفكر "الأنسني" إلا ذاكرة مضادة ـ على حد تعبير الرائع ادوارد سعيد ـ، بمعنى ما، تملك خطابها المعاكس المخصوص الذى يمنع الضمير من أن يُشيح بنظره، أو أن يستسلم للنوم! وكما أن التاريخ لا ينتهي ولا يكتمل أبداً، كذلك الأمر بالنسبة إلى بعض المسائل الجدلية التى يستحيل مصالحتها، أو تجاوزها، بل إنها ليست قابلة حقاً لأن تُطوى في نوع من التوليفة الأرقى، هي بلا ريب الأنبل..



أصيل فكرنا الأنسني أصالة الضمير! قاسٍ هو قسوة الحقيقة! غير أن الخطر كل الخطر في مناهضته واضطهاد أصحابه، ناهيك عن تجفيف منابعه، كما هو حاصل في مجتمعاتنا المُتخلفة، منذ جلاء المُستعمر الأوروبي عن أرضنا!



ثمة دروس عظيمة يمكن استخلاصها من عقود استقلالنا الزائف! فكائناً ما كان نُبل الأهداف التحررية، إن صح القول بوجودها، لدى مؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار"، فإنها لم تمنع للأسف الشديد من انبثاق بدائل عربية شديدة الانحطاط للأنظمة الاستعمارية المُغادرة، ساعد على التمكين لها تشبع الوجدان العربي بفهم مُخنث للبطولة، الحرية فيه هبة، لكن ليس من الله، وإنما من المُستبد العادل(1)!



فُقدان الحرية في مجتمعاتنا ليس يُفهم على أنه عُبودية، بل يُفهم على أنه وصاية تُمارس لخيرنا وخير الوجود بأسره! استقلالنا الوطني حتمي وبديهي، طالما خلت البلاد من الأجانب المُسلحين! إلى هذه الدرجة من الرداءة، وصل الفكر الشائع بين أبناء مجتمعاتنا! الهروب من "الحقيقة" أعلى مراحل التخلف!



من هنا، يأتي حرصي على التمرد على التعاطي العربي "اللاثوري" مع الثورات! فكل انتفاضة في تاريخنا "تُخفق" في بلوغ أهدافها، تُصبح فتنة شيطانية زائلة(2)، يُشيع أصحابها بالاستهجان والنسيان، إما إلى القبور أو إلى المُعتقلات!



وكل انتفاضة "تنجح" في بلوغ أهدافها، هي ثورة مُباركة خالدة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها! القراءة النزيهة والمنظمة لأحداثها خيانة للوطن ولدماء الشهداء! ثوراتنا العربية دائماً ما يقوم بها أبطال معصومون! ومن ثم، لايجوز المساس بهم، من قريب أو بعيد! إنهم رُسل العناية الالهية لبلادهم!



الطريف في الأمر، انه ومع مرور الزمن غالباً ما يثبت خلاف ذلك!!



مقالتى هذه محاولة لاستكشاف جذور وملابسات ثوراتنا الأخيرة(3)، والتى اتمناها "نبع الهام"، لا "ضريح ولي"! وأملي أن أوفق في إنشاء موقع جدير بالهجوم عليه حقاً! رغم ما تؤكده الثورات نفسها ـ وهنا يكمن الخطر ـ، من وجود فقر في التفكير الحُر، والنفوس الحُرة القادرة على قراءة نزيهة ومنظمة للأحداث!



أبدأ رحلتي مع الثورات الأخيرة، بمشهد رأيته على شاشة التليفزيون الوطني في بلادي! رأيت شاباً يتحدث عن طموحاته! علمت لاحقاً من حديثه انه يعمل في صناعة السينما، وأنه عائد لتوه من الولايات المتحدة! ما يهمني هنا هو حديث هذا الشاب عن أمله في صناعة فيلم عن بلاده، يُصور فيه الشوارع والناس والبنايات..الخ! لا لشيء وإنما على حد قوله ليثبت للغربيين أننا أسوياء مثلهم!



حديث المخرج الشاب بدا غريباً بعض الشيء، فاستوقفته المذيعة باندهاش، طالبة التوضيح! فأجابها في ثقة وأريحية يُحسد عليهما انهم في الولايات المتحدة الأمريكية لايرون في الشرق الأوسط سوي العنف وترويع الآمنين أو الارهاب على حد قوله. ولا يعرفون أو يعترفون لأهله بدور يُذكر في الحضارة الحديثة!

تمرد "أخرق" على ناموس الحياة، أخرج شعوبنا وبلادنا من التاريخ!



بيئة عالمية "جديدة" لم نُشارك في صُنعها:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



في مؤلفه القيم "القوى العظمى: التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 إلى 2000"، وفي إطار تحليله لتطور النظام العالمي في العصور الحديثة(4)، أكد بول كنيدى أن انسحاب الولايات المتحدة السريع من الالتزامات الخارجية بعد عام 1919، والتوجه الانعزالي الروسي تحت حكم البلاشفة، أفرز نظاماً عالمياً لا يرتبط ـ بصورة غير مسبوقة ـ بالواقع الاقتصادي الجوهري.



فرغم ضعف قوة بريطانيا وفرنسا إلا أنهما كانتا في بؤرة المسرح السياسي العالمي! ولكن تعرض وضعهما في ثلاثينيات القرن العشرين لتحديات دول ناهضة عسكرياً كإيطاليا واليابان وألمانيا، حيث كانت الأخيرة عازمة على السعي الأكيد نحو فرض هيمنتها على أوروبا، بصورة أكبر من سعيها في عام 1914.



وفي الخلف ظلت الولايات المتحدة أكبر الدول الصناعية في العالم، وكانت روسيا الستالينية ـ نسبة إلى الزعيم ستالين ـ تتحول بسرعة إلى قوة صناعية عظمى. وبالتالي تمثل مأزق الدول الناهضة عسكرياً في وجوب توسعها بأسرع وقت ممكن إذا شاءت ألا تخضع لمشيئة العملاقين القاريين(الولايات المتحدة الأمريكية & الاتحاد السوفيتي). في حين تمثلت ورطة القوى القائمة ـ كفرنسا وبريطانيا ـ في مواجهة تلك الدول الناهضة، وهو ما ينهك قواها بالضرورة.



وقد أكدت الحرب العالمية الثانية، بكل ما حملته من تغيرات، على هذه المفاهيم. فرغم الانتصارات المبكرة التي حققتها دول المحور، إلا أنها في النهاية لم تنجح في مواجهة اضطراب الموارد الإنتاجية التي فاقت كثيراً مثيلاتها في الحرب العالمية الأولى، واستطاعت فقط تنحية فرنسا جانباً وإنهاك بريطانيا قبل أن تخبو هي نفسها أمام القوة الأكبر، لينفتح المجال أمام حلول "الثنائية القطبية" في العالم، حيث سار التوازن العسكري بحذى التوزيع العالمي للموارد الاقتصادية.

ميلاد هذا النظام الدولي ـ السابق على "الثنائية القطبية" ـ تواكب مع ظهور الاستعمار الأوروبي الحديث، حيث خرجت القوى الأوروبية تضرب في المجهول، وعادت مُحملة بثروات العوالم الأخرى، القديم منها والجديد. بيد أن السلوك الأوروبي لم يكن ـ وقتها ـ خروجاً على المألوف، فقد انخرطت معظم القوى الدولية في سلوكيات مماثلة، تراوحت ما بين ممارسة الاستعمار أو مساندته أو على الأقل قبوله ـ لخدمته مصالحها أو لعدم تعارضه مع تلك المصالح ـ!



ومع اضطلاع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، إبان الفترة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الأخير، بالقيادة العالمية، من خلال كتلتيهما الغربية والشرقية، ساند القطبان الأعظم وكتلتاهما استقلال الدول المُستعمرة ـ وفي مقدمتها بلادنا ـ استقلالاً "زائفاً"، يسمح بانبثاق بدائل محلية شديدة الانحطاط للأنظمة الاستعمارية المُغادرة، تعمل ـ بوعي أو بلاوعي ـ على تكريس تخلف شعوبها، من خلال تجفيف منهجي لمنابع الحرية، يتجاوز في خسته المُمارسات الاستعمارية! وبحسب التاريخ، لم تقدح معاداة أي من القوتين العظميين لحكام بأعينهم في مساندتها لأنظمتهم ولمبدأ الاستقلال الزائف، فغالباً ما كان مصدر العداء عدم احترام الحاكم لواحدة أو أكثر من مصالح تلك القوة في المنطقة(5).



بانهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكك كتلته الشرقية، لم تتخل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها عن مساندة الاستقلال الزائف للبلاد العربية ـ على خلاف موقفهم المناهض له في دول إفريقيا جنوب الصحراء(6) ـ! حدث هذا، على ما يبدو، لعدم انتفاء دوافع تلك المساندة(7)، باستثناء الدافع الخاص باحتواء المد الشيوعي في العالم العربي، في إطار ما أصطُلح على تسميته "الحرب الباردة".



نهاية الحرب الباردة لم تحقق السلام على الأرض، كما توقعت الولايات المتحدة وحلفاؤها! صحيح أنها احدثت استرخاء للتوترات الاستراتيجية، واتاحت فرصة للتركيز على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ـ من منظور المصالح الغربية بطبيعة الحال ـ، غير أنه بالنسبة لهؤلاء الذين كانوا يفسرون بشكل ملائم جميع الأحداث التى تقع في العالم على أساس الانتصارات أو الهزائم للولايات المتحدة أو للاتحاد السوفيتي، أصبح العالم المعاصر كتلة متشابكة من المتناقضات، ووجب على الأكاديميين وصناع السياسة ايجاد طرق جديدة يعرفون بها العالم!



وهذا بالضبط ما حصل! على سبيل المثال، ظهرت وجهة نظر يزعم أنصارها ان الدور التاريخي لـ"الأمة ـ الدولة nation-state" قد انتهى، مثلما انتهت حقبة "الديناصورات"، ويجب أن ترفضه خرائط القرن الـ21، على أنه دور تقادم عليه العهد(Cool! إلى جانب العديد من الخرائط الأخرى للوضع الدولي "ما بعد الحرب الباردة"، لخص باستور ستاً منها، واصفاً اياها بأنها الأكثر تأثيراً(9):



[1] العولمة Globalization: إن أوجه التقدم التى حدثت في التكنولوجيا والاتصالات المقترنة بالقوة المتصاعدة للشركات متعددة الجنسيات قد عولمت السياسة والاقتصاد وقللت من دور الدولة. هذه العملية "غير الارتجاعية" يُتوقع أن تؤدي بشكل حقيقي إلى اقتصاد بلا حدود، وتحسن مستويات المعيشة للجميع.



[2] صدام الحضارات Clash of Civilization: يتحدد النظام العالمي الجديد بالصراع بين الحضارات وليس بالتكامل العالمي. ويُميز صمويل هنتنجتون بين تسع حضارات رئيسية: الغربية، وأمريكا اللاتينية، والأفريقية، والاسلامية، والصينية، والهندوسية، والأرثوذكسية، والبوذية، واليابانية. ويزعم هنتنجتون أن التنافس بين الدول الكبرى قد حل محله صدام الحضارات. فالتكامل الاقتصادي لن يجعل هذه الثقافات تتجانس، لكنها سوف تظل متمايزة ولا يمكن التوفيق بينها.



[3] النظام العالمي الجديدNew World Order : إن انتهاء التنافس على القوة العظمى أتاح لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن يلعب الدور الذي أنشيء من أجله: باتخاذ اجراءات جماعية لمنع وازالة العقبات التى تهدد السلام، وتعزيز حقوق الانسان. والتحالف الذى نشأ تحت مظلة الأمم المتحدة وأخرج العراق من الكويت كان علامة على ميلاد هذا النظام. والذي ظهر في الوقت المناسب، حيث قللت العولمة من قدرة الدول على إدارة الأنشطة العابرة للحدود الاقليمية بشكل فعال. ولا يمكن إلا لشكل واحد من أشكال الحكم العالمي أن يتعامل مع مشاكل انتشار أسلحة الدمار الشامل أو التقلبات المالية السريعة أو التدفق الضخم للاجئين أو الخلافات التجارية أو التدابير المنظمة لابادة شعب أو ثقافة.



[4] السلام الديمقراطيThe Democratic Peace : إن قضايا السياسة العالمية هي شأن من شئون قضايا السياسة المحلية، ويعتمد السلام على انتشار قيم ونظم الديمقراطية، فالدول الديمقراطية لا تحارب بعضها بعضاً على الأقل بعد أن تترسخ فيها الديمقراطية. ولذا تحدث التهديدات الرئيسية للسلام العالمي بين الدول التى يحكمها دكتاتوريون أو بين دول ذات أنظمة دكتاتورية ودول ديمقراطية.



[5] وحدة عموم الأقاليم :Pan-Regionsضغطت التكنولوجيا المسافات، ومنذ عام 1947 أزالت الاتفاقيات الدولية معظم الحواجز التجارية والاستثمارية. ومع ذلك، فالنتيجة لم تكن عالماً واحداً بل ثلاثة عوالم: فقد ازدادت التجارة داخل كل إقليم من الأقاليم الثلاثة(أوروبا، وأمريكا الشمالية، وشرق آسيا)، بسرعة أكبر من التجارة بين الأقاليم بعضها وبعض. ويهيمن على كل إقليم من هذه الأقاليم قوة: الاتحاد الأوروبي من خلال ألمانيا الموحدة، وأمريكا الشمالية من خلال الولايات المتحدة، وشرق آسيا من خلال اليابان، لكن الصين تنازعها الهيمنة بشكل متزايد. هذه الأقاليم الثلاثة تمثل نسبة 80% من انتاج العالم وتجارته.



[6] الدول States: حدث تغير جوهري في النظام الدولي بينما ظلت دوله تلعب الدور الأكثر أهمية. وكما هو الحال دائماً، فالدول الكبرى لها قدرة أكبر في التأثير على طبيعة قواعد النظام الدولي وشكلها. غير أن جميع الدول لها حق التصويت في المنظمات الدولية التى تطبق القواعد على نطاق كبير من الأنشطة.



توحي النظرات الاعتبارية الخمس "الأولى" بأن عصر الدولة القومية قد انتهى بسبب التآكل السريع للسيادة من خلال التفكك الثقافي أو التكامل العالمي أو التنظيم الدولي أو مجموعة تشتمل على دول مختلفة. غير أن تحليلاً أدق ـ فيما يرى باستور ـ يتيح للمرء أن يرى الدور الرئيسي الذى لعبته الدول في كل هذه الرؤى، كما يعترف بذلك العديد من المناصرين لهذه الرؤى. وعلى سبيل المثال، فعلى الرغم من أن هنتنجتون يؤكد على أن المتغيرات الثقافية تعتبر أكثر أهمية في تفسير سلوك الدول، فإنه يعترف أيضاً بأن الدول ستظل اللاعب الرئيسي في شئون العالم، وتتضمن سيناريوهات الصراعات التى طورها في كتابه الشهير "صدام الحضارات"(10)، على صراع بين الدول الكبرى وليس بين الحضارات.



ويقول توماس فريدمان أن الدول الكبرى يجري استبدالها بأسواق كبرى(سوبر ماركت)، لكنه يزعم أنه بسبب العولمة والحدود المفتوحة فسيكون للدول شأن أكبر وليس أقل في وضع القوانين وتنفيذها. "تتطلب العولمة القابلة للاستمرار هيكلاً مستقراً للقوة، ولا توجد دولة أكثر أهمية لذلك من الولايات المتحدة. فالانترنت وغيرها من التكنولوجيات التى يصممها وادي السيليكون Silicon Valley لنقل الأصوات الرقمية والصور التليفزيونية والبيانات حول العالم، وعمليات التكامل التجاري والمالي المستمرة في تعزيزها بابتكاراتها، وأيضاً كل الثروة التى تتولد عن ذلك، كلها تحدث في عالم تعمل على استقراره قوة غير ضارة، عاصمتها واشنطن دي سي. فمن ناحية، يرجع عدم اندلاع حرب بين دولتين توجد بهما مطاعم ماكدونالدز إلى التكامل الاقتصادي، ولكنه يرجع أيضاً إلى وجود القوة الأمريكية واستعداد أمريكا لاستخدام هذه القوة ضد أولئك الذين قد يهددون نظام العولمة، بدءاً من العراق إلى كوريا الشمالية. فلن تنجح اليد الخفية للسوق بدون وجود قبضة خفية. ولا يمكن أن تنجح مطاعم ماكدونالدز بدون ماكدونيل دوجلاس مصمم طائرة السلاح الجوي الأمريكي إف ـ15. وتسمى القبضة الخفية، التى تحفظ للعالم الأمان الذى يسمح لتكنولوجيات وادي السيليكون بالازدهار، جيش الولايات المتحدة، وسلاحها الجوي، ومشاة بحريتها. وهذه القوات المقاتلة والمؤسسات يدفع لها بالدولار دافع الضرائب الأمريكي"(11).



السلام الديمقراطي يقوم على أساس الدول، وخريطة عموم الاقليم تتكون أيضاً من دول، تكون الغلبة فيها لاحدى دول الاقليم. فالولايات المتحدة تصدر 90% من الانتاج الكلي و73%من التجارة إلى أمريكا الشمالية، واليابان تصدر 70% من الانتاج الكلي وثلث التجارة إلى عشر دول في شرق آسيا. وتصدر ألمانيا23% من انتاجها الكلي و28%من تجارتها إلى دول الاتحاد الأوروبي.



في القرن التاسع عشر، بدت القومية فكرة سياسية أكثر ضعفاً من فكرتي الليبرالية والاشتراكية، بيد أن الأفكار الثلاثة وجدت تعبيراً لها بصفة رئيسية داخل الدول. فقد غرست القومية في الدول الطاقة والتوجه الذى كان أحياناً ايجابياً وأحياناً مدمراً، على حد تعبير باستور. وبالمثل، وفيما يرى باستور أيضاً، يجري مع نهاية القرن العشرين إعادة تعريف مصالح وأولويات الدول عن طريق العولمة والهوية والديمقراطية، وبواسطة فاعلين جدد(المنظمات غير الحكومية، والمنظمات الدولية، والمؤسسات متعددة الجنسيات..الخ)، يعززون هذه المصالح والأفكار.



صفوة القول، ان الدول لا تزال هي الفاعل الرئيسي في النظام الدولي، غير أن كلاً من هذه الرؤى الأخرى تزيد من فهمنا للأرضية التى تناور عليها الدول للدفاع عن أنفسها أو اعلاء مصالحها. والسؤال: أي الدول اليوم هي الأكثر أهمية؟ نحتاج إذن لتعريف "القوة"، وبعدها نُحدد الدول الأقدر على التأثير ـ عالمياً ـ.



"القوة" مُصطلح مراوغ! وفي محاولة جوزيف ناي الابن لتعريفها، قارن في البداية القوة بالطقس ـ الذى يسهل التحدث عنه أكثر من فهمه ـ وبعد ذلك قارنها بالحب الذى يسهل معايشته عن تعريفه أو قياسه! وإذا عُرفت القوة بالمصطلحات العسكرية التقليدية كقدرة على سحق العدو، حينئذ فإن الاسلحة النووية تعتبر المؤشرات الرئيسية، ولا تزال الولايات المتحدة وروسيا من أكبر دول العالم قوة، واذا عُرفت القوة بقدرة الدولة على انتاج السلع والخدمات، فسوف يكون اجمالي الناتج المحلي هو المؤشر الأفضل، وأعلى اجمالي تمثله دول كالولايات المتحدة.



مفهوم القوة تغير كثيراً مع الزمن، على نحو واضح، ففي القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر كان يُعتقد على نحو واسع أن الحكومات التى تستطيع تعبئة أكبر عدد من الجيوش واطعامهم ويمكنها أن تجبي الضرائب من أكبر عدد من السكان سوف تفوز في الحروب، لذا كانت القوة غالباً ما تكافيء عدد سكان الدولة ومساحات الأراضي التى تستزرعها. وفي القرن التاسع عشر، كانت الصناعة والسكك الحديدية مصادر أكثر أهمية عن الزراعة أو مساحة الأراضي. وكان لدى روسيا عدد سكان أكبر من ألمانيا لكنها كانت أضعف منها، لأنها كانت تفتقر إلى ما كان لدى ألمانيا من السكك الحديدية الحديثة، والبنية الصناعية.



وبدءاً من صناعات النسيج الأولى والثورات الصناعية ومروراً بالثورة الكيمائية والنووية والمعلوماتية ـ أياً كان ما يُطور من تكنولوجيا جديدة أو معرفة أو ما يُمتلك من ثروات يُعتمد عليها ـ، فإن الدولة تجد نفسها في مقدمة منحنى القوة. فاختراع بريطانيا للآلة البخارية ووفرة الفحم جعلاها في مقدمة الثورة الصناعية. وعلاوة على ذلك، كانت أنواع معينة من الدول قادرة بشكل أفضل على استغلال مراحل معينة من التصنيع، فالاتحاد السوفيتي على سبيل المثال، كان قادراً على استخدام قوة التخطيط المركزى لتطوير صناعات الصلب الضخمة والكيماويات والمعدات الرأسمالية، غير أن اقتصاده الموجه أصبح عبئاً في عصر الكمبيوتر. تعلمت اليابان أن الطريق الصعب باستخدام الجيش من أجل الحفاظ على البترول والفحم كما فعلت في ثلاثينيات القرن ال20، أكثر تكلفة وأقل فاعلية من الاعتماد على السوق والتكنولوجيا، وهي ما اتجهت إليه بعد خمسة عقود.



الحكمة اليوم هي أن الدولة تستمد قوتها من النمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي، وتصبح التكنولوجيات مصدراً للقوة إذا أمكنها اختصار الزمن أو المسافة أو الفضاء، فالانترنت تُعتبر بحق التكنولوجيا الجديدة الأكثر قوة لأنها تنقل المعرفة والمعلومات إلى أشخاص أكثر وبصورة أسرع وأرخص وأسهل من أي وسائل اتصالات أخرى موجودة، ففي العقد من 1988 إلى 1998 الذى استخدمت فيه الانترنت على نطاق واسع، عملت الانترنت على تحفيز الصناعة بأكملها، وبحلول 1998 كان ثلث النمو الاقتصادي للولايات المتحدة يُعزى للانترنت.



الانترنت وقوة المعلومات تزيد من قدرة الأفراد والمنظمات غير الحكومية على التأثير في السياسة الخارجية والشئون السياسية الدولية. ولن نجد ـ والكلام لباستور ـ مثالاً أفضل لهذا من جودي ويليام، وهي سيدة شابة تعمل من خلال منزل متواضع في ولاية فيرمونت. ففي غضون ست سنوات من خلال عملها على الانترنت، استطاعت ويليام أن تنظم ائتلافاً من 1300منظمة غير حكومية في 60دولة وقامت بصياغة اتفاقية دولية لمنع انتاج وتخزين واستخدام الألغام الأرضية على مستوى العالم. وعلى الرغم من معارضة الولايات المتحدة وروسيا والصين، فقد أعدت المنظمات غير الحكومية حملة لوبية ناجحة استطاعت أن تجعل 122 دولة توقع اتفاقية في أوتاوا في ديسمبر 1997. وفازت ويليامز بجائزة نوبل لدورها في تنظيمها، واستخدام سيدة أعمال عادية لتكنولوجيا جديدة من أجل تعزيز معيار دولي، يعتبر هذا نوعاً جديداً من القوة في عصر جديد.



في عالم الحكم المطلق والحماية الجمركية تُعتبر الأرض مصدر القوة، وفي عالم التجارة الحرة تعتبر الأرض أقل أهمية، فدولة صغيرة مثل سنغافورة أو دولة تتكون من مجموعة جزر مثل اليابان يمكن أن تكون دولة ثرية وقوية. وكما ذكر ريتشارد روزكرانس فإن فهمنا لمعنى القوة قد تغير مثلما تغير العالم من "الدولة الاقليميةterritorial state" إلى "الدولة التجاريةtrading state" إلى "الدولة الافتراضيةvirtual state"، حيث تكون المعلومات وجميع عناصر الانتاج اجمالاً لها القدرة على الحركة والتأثير. ميزة متغيرات القوة المادية(العسكرية والسكان والاقتصاد والأراضي والثروة الطبيعية) هو أنه يمكن قياسها ويُعترف بها عالمياً على أنها مؤشرات للقوة. أما القوة غير المادية فهي معنوية ومن المستحيل قياسها، غير أن هناك مؤشرات بديلة لروعة جمال وجاذبية أي دولة، فقوة الولايات المتحدة الأمريكية غير المادية تظهر في المهاجرين والطلاب الذين يفدون إليها.



العلاقة بين القوة المادية والقوة غير المادية لم تُكتشف بعد بشكل كاف، والعلماء كلما حاولوا فهم "القوة" استعصت الاحاطة بها! لكنه، وفيما يرى باستور، توجد بعض التوضيحات المفيدة. أولا، يمكننا أن نفرق ما بين المؤشرات العسكرية والاقتصادية للقوة المادية حتى لو لم يكن في استطاعتنا مقارنتها أو إجمالها بسهولة. ثانياً، جعلت فكرة القومية والمعايير الدولية من استخدام القوة المادية أكثر تكلفة، ومن ثم تزايدت أهمية القوة غير المادية. ثالثاً، لا توجد إجابات بسيطة عن أسئلة مثل أي أنواع القوة التى يحتمل أن تكون أكثر فاعلية في إجبار أو إقناع خصم، حتى في الحرب، بل بصفة خاصة في وقت السلم أو أثناء المفاوضات.



على أية حال، من شأن تحليل سريع لمؤشرات القوة المادية والقوة غير المادية أن يُظهر، أن الدول السبع التالية: بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين، هي الدول الكبرى في العالم..



ولقد كانت للولايات المتحدة الأمريكية القوة الاقتصادية التى مكنتها من أن تحتل المرتبة الأولى على المسرح العالمي منذ بداية القرن العشرين، غير أن امكاناتها العسكرية لم تبلغ درجة التفوق إلا بعد دخولها الحربين العالميتين ـ الأولى والثانية ـ. قوة الولايات المتحدة الأمريكية لم تتراجع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أو حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، ولكن على الرغم من وضعها البارز هذا، فانها أظهرت على نحو مُلفت قدراً من التناقض بشأن زعامة العالم!



هناك دول أخرى، في رأي باستور، قد تنضم أو تحل محل الدول الكبرى في القرن الحادي والعشرين. وتعتبر الدول المرشحة الأكثر وضوحاً حالياً قوى اقليمية، لما لها من تأثير ملحوظ في مناطقها. ومن المحتمل أن يزيد تأثيرها عن تأثير الدول الكبرى. ففي أمريكا اللاتينية، تعتبر البرازيل والأرجنتين والمكسيك قوى اقليمية. وفي أفريقيا، نيجيريا وجنوب افريقيا. وفي الشرق الأوسط، العراق وايران ومصر. وفي آسيا، الهند واندونيسيا والباكستان لها تأثير خارج حدودها.



قارئي الكريم، ذلكم هو الوضع العالمي "الراهن"، كما تبدو ملامحه الرئيسية في الفكر الاستراتيجي الغربي! وكما رأينا، لم نُشارك في صنع هذه البيئة العالمية الجديدة! من هنا، ولسجناء الاعتقاد في عظمة الاستقلال العربي الزائف لبلادنا، وفي الكاريزمية "الاصطناعية" للآباء المؤسسين لدولة "ما بعد الاستعمار"، أقول:

"وحدها الحقيقة تُحرركم"!




الأنظمة الاستبدادية ودولة "ما بعد الاستعمار"(12):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



هذه المقالة ليست سرداً/وصفاً لأحداثٍ، فالسرد "الغائي" عملية تتقنها مراكز البحوث عندنا أو العارفون ببواطن الأمور، فيما يتعلق بالأحداث الجارية!! فإلى هؤلاء جميعاً يرجع الفضل في تزويد الجمهور العربي بمخزونٍ كافٍ من المعلومات ـ أفترض جدلاً صحته ـ، بما يكفي لامتلائه معلوماتياً! بقي لجمهورنا العربي أن يعرف كيف يُحقق ويُحلل هذا الكم من المعلومات المُلقي في روعه!



قراءتي هذه لن يكون لها أي معنى إذا لم تتجاوز السرد "الغائي" للأحداث الجارية، إلى قراءة نزيهة ومنظمة لها! وعليه، لا أنوي مُحاكاة ما تشهده مجتمعاتنا من تنبوءات يومية "مُبتذلة"، كون أصحابها يتعاطون مع الأحداث على خطورتها من واقع خبراتهم الطويلة مع مسابقات "كرة القدم"! وهو أمر لا يخلو من طرافة، وإن كان متوقعاً، في ظل شغل "كرة القدم" لأبناء أمتنا، لأكثر من نصف قرن!



التنبوء اليومي عملية محفوفة بالمخاطر، ويغلب عليها طابع المغامرة، خصوصاً إذا احتكمنا إلى الأخطاء التى تُرتكب ـ بوعي أو بلا وعي ـ من جانب أكثر مفكرينا شهرة أو أكثر الناس علماً ببواطن الأمور. أما التنبوء متوسط الأجل فهو ينطوي على قدر أقل من المخاطرة ويتمتع بمزايا أفضل خصوصاً عندما يُوظف بطريقة المصباح الكاشف الذى تضيء الأشعة الصادرة عنه جوانب الحاضر بأكثر مما تحاول أن تستكشف خطوط المستقبل في الواقع الذي نعيشه.



وربما كان من الأفضل والأهم ـ والاقتراح لمارسيل ميرل ـ أن نطرح أسئلة جيدة بدلاً من أن نحاول البحث عن اجابات لأسئلة رديئة، ولسوف احاول!



"نظام الحكم" ـ أو "النظام السياسي" ـ هو أحد العناصر التى لابد منها لكيان/شخصية الدولة، إلى جانب الشعب والاقليم. أو بعبارة أخرى، "النظام السياسي" هو مجرد تسمية لأنواع الحكومات أو أشكال الحكم! وثمة تصنيف مُتداول يقول بإمكانية التمييز بين ثلاثة أنواع رئيسية من الحكومات(13): 1ـ الحكومة البرلمانية. 2ـ الحكومة الرئاسية. 3ـ حكومة الجمعية الوطنية أو نظام الحكم المجلسي فيما يسميه البعض. والمباديء الأساسية التى تميز كل نوع من أنواع الحكومات هي تداخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في الحكومة البرلمانية، وانفصالهما في الحكومة الرئاسية، وأولوية السلطة التشريعية في النوع الأخير.



ولقد اشتُق مفهوم "النظام system" في ميدان العلوم الطبيعية أولاً، لكي يأخذ في الاعتبار وجود علاقة بين العناصر الخاصة بمجموعة معقدة(النظام الشمسي مثلاً). وتم نقل هذا المفهوم، على أسس غير دقيقة، إلى ميدان دراسة المجتمع اعتباراً من القرن التاسع عشر فقط. وقد أسهمت أعمال علماء الرياضة في وضع القواعد النظرية لمفهوم النظام، كما أسهمت أعمال علماء الأنثروبولوجيا والاقتصاد في ادخال التحليل النسقي إلى الحقل الاجتماعي، ومع ذلك فقد تعين الانتظار حتى منتصف القرن العشرين قبل أن يظهر مفهوم واضح ومتماسك للنظام الاجتماعي، وذلك من خلال الدراسات التى قام بها تالكون بارسون(14).



النظام الاجتماعي في أعمال بارسون صُمم على أساس أنه مجموعة مركبة من الوظائف المتنوعة. يقوم بكل وظيفة من هذه الوظائف، وبطريقة مميزة، قسم محدد من أعضاء المجموعة: فتقوم الأبنية العائلية بالمحافظة على النموذج، وتقوم الأجهزة الاقتصادية بالتكيف مع الضغوط الخارجية، وتقوم السلطات السياسية باتخاذ القرارت وتقوم المؤسسات الاجتماعية والثقافية بالعمل على استمرار الوفاق العام. وتتوافر للجماعات الأكثر كمالاً واتقاناً فقط، وظيفتان أخريان هما القدرة على تغيير الأهداف المرغوب الوصول إليها، والقدرة على التحول الذاتي بدون المساس بالشخصية. ولمنتقدي المدخل الوظيفي لبارسون، تؤكد التجربة، والرأي لأنصار بارسون، انه إذا كان صحيحاً أن الأنظمة الاجتماعية تحوز من الموارد ما هو ضروري لبقائها، إلا أن هذه الأنظمة مُعرضة للأعطاب الوظيفية، مثلها مثل الأعضاء البيولوجية، فهذه وتلك مُعرضة فيما يرى مارسيل ميرل، في ظروف معينة، للفناء التام إذا انفجرت من داخلها، أو تعرضت للضغط من خارجها.



مُستفيداً من أعمال بارسون، عمد دافيد إيستون إلى بناء النظام السياسي، على ما يلي: أولاً، أهمية العلاقة بين النظام وبيئته. ثانياً، أهمية ضبط إيقاع النظام عن طريق سلطة قادرة على الرد الملائم على التحديات ـ القادمة ـ من البيئة.



تحليل النظام ـ أو التحليل النسقي ـ ينطوى على دراسة مجمل التفاعلات التى تحدث بين النظام وبين بيئته. و"النظام" المكون من مجموعة محددة من العلاقات، هو في حالة اتصال مع بيئته من خلال آلية "المدخلات" و"المخرجات". وتتكون المدخلات من مجموعة المطالب والمعضدات المتجهة إلى النظام باعتبارها كل واحد . وفي داخل النظام تتحول المطالب والمعضدات تحت تأثير رد الفعل المركب للعناصر التأسيسية للنظام نفسه لتثير في النهاية رد فعل شامل من جانب سلطة نظم الايقاع، يعبر عن الطريقة التى يسعى بها النظام نحو التكيف مع التحريضات والضغوط النابعة من البيئة. وبينما يشكل رد الفعل الشامل هذا "المخرجات" استجابة response النظام أو رده على "المدخلات"، فإنها تمهد في الوقت نفسه لدائرة جديدة من رد الفعل "التغذية المرتجعة Feed-back" والتى تسهم بدورها في تعديل البيئة والتى منها ستنطلق مطالب ومعضدات أخرى.



من هنا، اشتق ميرل تعريفه لـ"النظام" بأنه: مجمل العلاقات بين عدد محدد من اللاعبين الذين يضمهم نمط بيئي معين ويخضعون لصيغة تنظيمية ملائمة.



"نظام الحكم" عبارة ترهبها الأذن العربية ولا ترتاح لها كثيراً على نحو مُلفت، ربما لارتباطها في الوجدان الشعبي لدولة "ما بعد الاستعمار" بالحكومات الاستبدادية/الدكتاتورية، ولنقرأ قول "الخطير" محمد حسنين هيكل، على خلفية اندلاع الاحتجاجات الطلابية المناهضة لنظام الحكم في مصر عام 1968(15):



"النظام المصري الذى حكم ابتداء من سنة 1952 لم ينشأ في بيئة سياسية، أعني(والكلام لهيكل) أن الثورة كان يجب بالمنطق العادي أن تنبع من جو آخر غير القوات المسلحة التى خرجت منها الطلائع التى قادت الثورة فيما بعد فعلاً".



وربما أيضاً يرجع عدم الارتياح الشعبي لعبارة "نظام الحكم" لارتباطها بأحكام قضائية "دموية" "جائرة"، لطالما صدرت في حق شرفاء، طيلة عقود "ما بعد الاستعمار"، بزعم مناهضتهم للشرعية القائمة وتآمرهم لقلب "نظام الحكم"!



حديثي في هذه المقالة عن الأنظمة العربية الحاكمة، لا أعني به سوى الأنظمة التى وُجدت في دولة "ما بعد الاستعمار"، واستوطنت الفضاء السياسي فيها لأكثر من نصف قرن، فقد تزامن ميلاد هذه الأنظمة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية واقرار القوتين العظميين ـ كما ذكرنا ـ لمبدأ الاستقلال "الزائف" للبلدان المُستعمرة، وفي مقدمتها بلدان عالمنا العربي وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء!



هذه الأنظمة العربية الاستبدادية في دولة "ما بعد رحيل الاستعمار" ـ أو دولة "ما بعد الحرب العالمية الثانية" ـ، منذ مجيئها إلى الوجود وحتى انهيارها الذى بدأ فيما أري مع الاطاحة بنظام صدام حسين في العراق ولا يزال مُستمراً حتى الآن، وعلى اختلاف مشاربها، ما بين قومي واسلامي وبعثي وشيوعي وناصري واشتراكي..الخ، كانت ولا تزال حريصة على توارث وتكريس مبدأ الاستقلال "الزائف"! وهي، وإن بدت متنافرة، تلتقي على تجفيف منابع الحرية!



ولمن يسأل: لماذا سبقتنا مناطق كإفريقيا جنوب الصحراء في التخلص من انظمة "ما بعد الاستعمار"، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي؟ ولماذا تأخرت الاطاحة بهذه الأنظمة في عالمنا العربي، إلى ما بعد هجمات سبتمبر 2001! رغم ما نعلمه جميعاًً من تزامن حصول البلدان العربية والافريقية، على الاستقلال الوطني!



بل إن دولة كمصر كان لها فضل السبق!! وهو ما أغرى على ما يبدو نظامها الحاكم في خمسينيات وستينيات القرن العشرين بالمُزايدة، بل والمُتاجرة بجهوده في دفع الأفارقة إلى الاستقلال، رغم حتميته، لدعم القوتين الأعظم له!



بالطبع، لا أقصد من قولي هذا التهوين من جهود الأنظمة المصرية "ما بعد الاستعمار"، فهي مشكورة، ما أقصده هو التنبيه لأهمية تخليص الماضي من زيفه وأكاذيبه الكبرى، كون هذا أصون للتاريخ! فأن تعرض نصف الحقيقة وتخفي نصفها الآخر أخطر ألف مرة من أن تُخفي الحقيقة برمتها. لم يعد مقبولاً أن نُعمى عن بديهيات، صيرنا الجهل بها "لعبة" الأمم! دعم حكوماتنا ظل وثيقاً لحكومات إفريقية بعينها(16)، اشتهرت باستبدادها وتكريسها المُر لمبدأ الاستقلال الزائف!



في مؤلفه القيم "الموجة الثالثة"(17)، حدد هنتنجتون معنى الديمقراطية بإيجاز بأنها نهج للحكم يقوم على الانتخابات الحرة والمؤسسات الثابتة وعلى تداول السلطة بين الأحزاب في نظام تعددي يكفل الحرية وتكافؤ الفرص لجميع الأحزاب السياسية القائمة وحرية الاختيار لكل الناخبين. ويقابلها على النقيض النظام الشمولى الذي يتولى الحكام في ظله السلطة إما بحكم المولد أو الصدفة أو الثراء أو العنف أو التعيين. والديمقراطية كما يحددها هنتنجتون ليست نظاماً للحكم وإنما هي "نهج" يُتبع في إطار نظام الحكم. فهناك ملكيات شمولية وأخرى ديمقراطية، كما أن هناك أنظمة حكم جمهورية شمولية وأخرى ديمقراطية. لكن الديمقراطية لا تتناسب بالطبع مع أنظمة الحكم العسكرية أو الدكتاتورية الفردية!



في المؤلف نفسه تحدث هنتنجتون عن تقارير صدرت عام 1990، تؤكد أن التحول الجماعي إلى الديمقراطية الذي كانت تشهده أوروبا الشرقية، على خلفية تفكك الاتحاد السوفيتي، دعم المطالبة بالتغيير عندنا، ودفع الحكام في مصر والأردن والجزائر إلى الاسراع بإتاحة مزيد من المجال السياسي للتعبير عن السخط. ولتعضيد زعمه، أورد هنتنجتون تعليقاً، لصحفي مصري، على الانهيار الجماعي للأنظمة الشيوعية، هذا نصه: "لا مفر من الديمقراطية الآن. فكل هذه الأنظمة العربية لا خيار أمامها إلا أن تنال ثفة شعوبها وترضخ للخيار الشعبي"!



وفي تفسيره لعدم تحقق رؤية الصحفي المصري ـ والتى تستند إلى فرضية "العدوي"، أو "كرات الثلج"، أو "ظاهرة الدومينو" كسبب(18) ـ، أكد أستاذ هارفارد الراحل هنتنجتون أن الثورة الديمقراطية العالمية كانت يمكن أن تفرز في أية دولة مناخاً خارجياً يدفع ويساعد على التحول الديمقراطي، لكنها لم تكن تستطيع أن تُفرز الظروف ـ الداخلية ـ اللازمة للتحول الديمقراطي في الدولة.



"كرات الثلج" أو "ظاهرة الدومينو" والتى كان تأثيرها واضحاً عام 1990، على التحول الديمقراطي في كل من بلغاريا ورومانيا ويوغوسلافيا ومنغوليا ونيبال وألبانيا، كانت وحدها ـ والكلام لا يزال لهنتنجتون ـ تُعد ضعيفة كسبب للتحول الديمقراطي في غياب الظروف الملائمة في تلك الدول التى تأثرت بها.



تحليل هنتنجتون "صحيح" و"بارع" كالعادة! غير أنه "ناقص" و"لا يخلو من غرض"! كونه يتعامى بدمٍ بارد، كدأب أغلب التحليلات الغربية، بل والعربية أيضاَ(!!)، عن تحميل الولايات المتحدة وحلفائها أية مسئولية عن اعاقة توافر "الظروف الداخلية اللازمة للتحول الديمقراطي" في بلادنا، متجاهلاً دور بلاده اللاانساني في التمكين لمبدأ الاستقلال الزائف في دولة "ما بعد الاستعمار"(19)!



على أية حال، هنتنجتون قسم "القوى الداخلية" التى حالت برأيه دون المزيد من التحولات الديمقراطية في دول العالم، في تسعينيات القرن ال20، كما يلي:



[1] العقبات السياسية: من العقبات السياسية غياب التجربة الحقيقية مع الديمقراطية عن الدول التي ظلت على الشمولية في تسعينيات القرن الماضي. وإن كان هذا برأي هنتنجتون لا يمثل مانعاً حاسماً أمام التحول الديمقراطي. هنتنجتون كان قد توقع اختفاء عقبة واحدة خلال تسعينيات القرن الماضي وهي الزعماء الذين أقاموا هذه الأنظمة الشمولية أو الذين ظلوا في السلطة طويلاً في هذه الأنظمة، لأنهم عادة ما يتحولون إلى متشددين، يعارضون أي تحول ديمقراطي! موت هؤلاء الزعماء أو رحيلهم عن السلطة يؤدي إلى إزالة عقبة من طريق التحول الديمقراطي في بلادهم، ولكن لا يؤدي بالضرورة إلى حدوث التحول.



من العقبات الأخرى الكؤود التي حالت في نظر هنتنجتون دون التحول الديمقراطي، غياب الالتزام الحقيقي بالقيم الديمقراطية بين الزعماء السياسيين في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. وان هؤلاء الزعماء حين يخرجون من مناصبهم، نجد لديهم ما يكفي من الأسباب للدفاع عن الديمقراطية. اختبار مدى التزام هؤلاء الزعماء بالديمقراطية يأتي حين يكونون في السلطة لا يزالون. وبرأي هنتنجتون ان الأنظمة الديمقراطية بأمريكا اللاتينية كانت تتم الاطاحة بها بانقلابات عسكرية في العادة. وقد حدث ذلك بالطبع في الشرق الأوسط وآسيا، إلا أن القادة المنتخبين أنفسهم في هذه المناطق كانوا برأيه مسئولين عن سقوط الديمقراطية، ومن هؤلاء أنديرا غاندي في الهند وفرديناند ماركوس في الفلبين وسوكارنو في أندونيسيا.



[2] الموروث الحضاري: هناك رأي يرى أن المواريث الحضارية التاريخية الكبرى في العالم تتفاوت بشدة في مدى ملاءمة توجهاتها وقيمها ومعتقداتها وأنماط السلوك فيها لنمو الديمقراطية. فالموروث الحضاري المعادي للديمقراطية يعوق انتشار المعايير الديمقراطية في المجتمع وينكر شرعية المؤسسات الديمقراطية، وبالتالي فهو يحول دون قيام هذه المؤسسات بمهامها. وطبقاً لهذا الرأي، لا تتناسب الديمقراطية إلا مع الدول الشمالية الغربية وربما وسط أوروبا وما خرج عنها من مستوطنين. ومن الشواهد الداعمة لهذا الرأي:



· ان الديمقراطية الحديثة نشأت في العالم الغربي.



· ان معظم الدول الديمقراطية منذ بدايات القرن الـ19 هي دول غربية.



· ان الديمقراطية انتشرت خارج نطاق شمال المحيط الأطلنطي، في المستعمرات البريطانية السابقة، وفي الدول التى تعرضت لنفوذ أمريكي طاغٍ، وأخيراً في المستعمرات الايبيرية السابقة بأمريكا اللاتينية.



· ان الدول الديمقراطية ال58 عام 1990 شملت 37 دولة أوروبية غربية ومستوطنة أوروبية ودولة أمريكية لاتينية ومستعمرة استرالية وست دول أخرى(اليابان، وتركيا، وكوريا الجنوبية، ومنغوليا، وناميبيا، والسنغال). وكانت عشرون دولة من الدول الثلاثين التى تحولت إلى الديمقراطية في الموجة الثالثة(20)، إما دولاً غربية أو دولاً سيطر عليها النفوذ الغربي.

ثمة نسخة أقل حدة من عقبة الموروث ترى أن المسألة ليست أن حضارة ما أو أخرى تلائم الديمقراطية وتتقبلها وإنما أن هناك حضارة ما أو بعض الحضارات تُعادي الديمقراطية! الكونفوشية والاسلامية هما الأكثر شهرة! وبرأيي هنتنجتون يزيد ما يلي من حدة العوائق التى تواجه الديمقراطية في حضارتنا:



· عدم طرح فكرة الديمقراطية للبحث النزيه المنظم. في حين أن الآراء التى ترى في بعض المواريث الحضارية عوائق تحول دون تحقيق التطور باتجاه ما أو آخر يجب أن يُعاد النظر فيها وأن تُحاط بقدر من الشك.



· [font='Simplified Arabic']إن المواريث الحضارية التاريخية الجليلة كالحضارة الاسلامية هي كيانات مُعقدة من الأفكار والعقائد والتعاليم والكتابات والافتراضات وأنماط السلوك. وأية ثقافة عظيمة بها بعض العناصر التى تناسب الديمقراطية. وعن العناصر المناسبة للديمقراطية في الحضارة الاسلامية وكيف وتحت أية ظروف يمكن إلغاء العن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://philo-ethique.alafdal.net
 
أى دمٍ قد أعاد كتابة التاريخ العربي(*)! حازم خيري
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» اي دم كتب التاريخ العربي حازوم خيري ج 2
» أوهام بعضها فوق بعض حازم خيري
» اوهام بعضها فوق بعص حازم خيري الجزء الثاني
» اوهام بعضها فوق بعص حازم خيري الجزء الأخير
» المستشرقون وتحقيق التراث العربي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
فلسفة الأخلاق :: مساهمات و توجيهات للباحثين :: مساهمات فكرية-
انتقل الى: