{إن الدين لا يستطيع أبداً أن يغير قلب الإنسان دون أن يكون في هذا القلب عدول عن الشر}
< 14 >
كما رأينا في القسم السابق مسلسل ربط الأخلاق بوجود الله الذي تناوله الدينيون تعرض لكثير من الانتقادات ولكن لا يتوقف الدينيون عند هذا الحد بل يتابعون عملهم في الدفاع عن عقيدتهم ومقدسهم ليحصلوا على حوريات الجنة وخمورها وولدانها أو لأسباب أخرى يخفونها في نفوسهم ....
فهذه المرة يعتبرون أن الدين هو ( مصدر الأخلاق ) وأن المجتمعات الدينية هي من أفضل المجتمعات أخلاقاً كونها تتربى على يد الكتب المقدسة ( الأديان ) وبالتالي يعتقدون أن الأديان هي أعظم مربية للأخلاق وهنا يقعون في مشكلتين:
الأولى: أن المجتمعات الدينية ( العربية خاصة ) تعاني من تزايد في الفساد الأخلاقي وبهذا يتناقض قولنا مع الفكرة الشائعة بأن مجتمعات العربية مجتمعات محافظة.
أما الثانية: أن الدين هو بالأصل يدعي امتلاك الأخلاق والأسبقية في معرفة القواعد والمبادئ الأخلاقية التي تصلح في كل زمان ومكان ناسياً أو متناسياً أن الأخلاق حتى بين الأديان هي نفسها لا تختلف كثيراً وقد طرحتُ السؤال أيضاً: هل الصدق في الإسلام يختلف كتعريف عن الصدق في المسيحية؟ وطالما أنه لا يختلف لماذا إذن هناك كل هذه الأديان؟
وأنا بالتالي سأتحدث بالتفصيل عن تلك المشكلتين آنفة الذكر.
أ – الأخلاق والمجتمعات الدينية:
لم يكن بحسبان المتدينون تدهور المجتمعات الدينية في الآونة الأخيرة وخاصة بالنسبة للمجتمعات الشرقية و الشرقية العربية وهي مجتمعات محافظة كما نعلم جميعاً.
لقد أثبت الدين فشله في تربية مجتمعاته التربية التي كان يحلم بها وهذا يعود باعتقادي
إلى مطالب الدين ( خاصة الإسلام ) الشديدة والحذر الذي يفرضه على أبنائه
لأن الدين الإسلامي مثلاً يرغب في أن يكون المجتمع الإسلامي (مجتمعاً ملائكياً)
وهذا لم يحدث ولن يحدث إلا في خيالات الدين وأحلامه ....
وقد وضع الدين الإسلامي ضوابط رادعة في الدنيا والآخرة أما في الدنيا
رجم الزاني إذا كان محصن ( متزوج ) حتى الموت أمام الناس جميعاً من أهل بلدته
جلد القاذف ثمانين جلدة ولا تقبل شهادته, قطع يد السارق .... وفي الآخرة يعد الله للعصاة وللفاسقين عذاب شديد على أبواب جهنم التي يحرسها ملائكة غلاظ شداد ...
وأسأل نفسي ما فائدة هذه العقوبات التي تشبه السادية والتعذيب للناس؟ هذا النوع من التعذيب يتناسب مع بيئة أصحابه البدوية على ما يبدو ... ألمْ يكن القانون الوضعي الآن مصيباً أكثر؟ فالذي يريد أن يفعل الخطأ سيفعله مهما كان وأعتقد أن العلاج النفسي سيكون الحل الأوحد بدلاً من العقاب الديني السادي والمتخلف ..
يقول الشيخ ابن عثيمين في خطبته " أسباب الزنا وحكم الدش " فيقول:
(( فمن ذلك عقوبة القاذف وهو الذي يرمي غيره بالزنا فإذا كان هذا الغير محصنا أي معروفا في العفة فقال له أنت زاني أو يا زاني أو ما أشبه ذلك فإنه يطالب بالبينة الشرعية وهو أربعة رجال يشهدون على صريح الزنا فإن لم يقم هذه البينة وجب أن يعاقب بالحد والحد ثلاثة عقوبات يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل منه شهادة أبدا ويحكم بفسقه لقول الله تبارك و تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:5) وإنما أوجب الله عقوبة القاذف بتلك العقوبات حماية للأعراض ودفعا عن تهمة المقذوف البريء البعيد عن التهمة وفرض الله تعالى عقوبة الزاني وجعلها على نوعين بالجلد مائة جلدة أمام الناس ثم ينفي عن البلد لمدة سنة كاملة وذلك فيما إذا لم يسبق له زواج تمتع فيه بنعمة الجماع المباح يقول الله عز وجل: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور:2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) والنوع الثاني من عقوبة الزناة الرجم بالحجارة حتى يموت ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدعى له بالرحمة ويدفن مع المسلمين وهذه العقوبة لمن سبق له زواج تمتع فيه بالجماع المباح وإن كان حين فعل الفاحشة لا زوج معه. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منبر رسول الله صلي الله عليه وسلم إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله صلي الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل يعني الحمل أو الاعتراف ))
أما عن " الدش " الذي يفسد ويضر بنظره أخلاق الناس:
(( ومن ذلك أيضاً ما فتن به بعض الناس من تركيب ما يسمى بالدش على بيوتهم الذي يتضرر به أهل البيت ويتضرر به ( ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) وهذه الدشوش بناءً على أن أكثر ما تستعمل فيما لا يرضي الله عز وجل يحرم بيعها وشرائها وتركيبها والاستفادة منها لأن غالبها الشر وقد قال الله تعالى في الخمر والميسر: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة:219) ولأجل ذلك حرمهما الله عز وجل تحريما باتا ))
< 15 >
وكل تلك العقوبات غير موجودة طبعاً الآن ولا يطبقها أي عاقل.
كون البلدان العربية ذات الأغلبية المسلمة هي دول علمانية تحتكم إلى قانون وضعي وليس إلى قوانين سماوية …
ب – الأخلاق والكتب الدينية:
لو حاولنا تحديد ماهية الكتب الدينية بالنسبة لأصحابها .. الكتب الدينية باختصار هي كتب مقدسة ودساتير حيث أنه لا يمكن للكتب المقدسة أن تخطئ وهي دائماً تريد الصلاح والخير لكل من يؤمن بها بضمانة الله ورسوله.
لقد كان جانب الأخلاق من الكتب المقدسة جانب هام و تترجم أهميته من حيث أنه يجذب شريحة كبيرة من الناس إليه عن طريق المقولة الشائعة " ديننا متسامح وربنا لطيف رحيم " ( تذكر قصة صديقنا س الذي تحدثنا عنه في بداية المقال ) .. ولكن تكمن مشكلة الدين في الإدعاء بأنه صاحب الأخلاق بشكل مطلق والسبب لأن الأخلاق التي يأتي بها هي مستوحاة من مصدر سمائي أو ميتافيزيقي, يذهب عن بال الدين أن الأخلاق ليست بالمنظور الذي يراهُ لها. فقد تعددت الأفكار كما تحدثنا في البداية في مفاهيم الأخلاق ولذلك لا يمكن تأصيل الأخلاق وتعميمها على جميع البشر في مختلف الزمان والمكان وهذا رأي الاتجاه الأخلاقي الذي ينظر إلى الأخلاق بأنها نسبية وهناك اتجاه أخلاقي يرى الأخلاق مطلقة ولكن يختلف تماماً عن نظرية الدين في مطلقية الأخلاق ..
إن القيم الأخلاقية تبقى واحدة ومطلقة ومفهومة في العقل ولذلك فهي لا تختلف مهما كان الزمان والمكان مثلاً: السعادة والحب والصدق هي واحدة لا تتغير
فهل السعادة اليوم تحمل غير المعنى منذ ظهور الإنسان؟ طبعاً لا ..
ولكن قد تم الاختلاف في سُبل الوصول إليها ... ولا مشكلة في مطلقية الأخلاق ولكن عندما توجه هذه المطلقية على أساس أن أصحاب هذا الدين المعين سيذهبون إلى الجنة والآخرون إلى النار بعد أن تتم محكمة يجتمع فيها الله وملائكته وأنبيائه والبشر في آخر الزمان ليقوم الإله وملائكته بعملية انتقام أو معاقبة كل من لم يتبع ذلك الدين.. هذا ما يتنافى مع مبادئ أصحاب الأخلاق المطلقة في الفلسفة الأخلاقية.
فأصحاب الأخلاق المطلقة ( المعيارية ) - وما سأتحدث عنه في مفهوم الأخلاق المطلقة عند المثاليين يختلف عن الأخلاق المطلقة عند الدينيين - إذ أنه يمثل القائلون بهذا الاتجاه – أي اتجاه المثاليين - من أكبر المذاهب في فلسفة الأخلاق من الحدسيين والعقليين منهم: سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وكنط ويفترضون هؤلاء:
بأن الطبيعة البشرية واحدة في كل زمان ومكان بمعنى أنهم يسلّمون بوجود ماهية بشرية ثابتة ومن ثم فإنهم يشرّعون للإنسانية عامة وإن وظيفة الفلسفة الأخلاقية عندهم هي محاولة لوضع مبادئ أخلاقية عامة وثابتة أي مطلقة تُعد غايات بذاتها ويخضع لها السلوك البشري لأنها تلائم أسمى جانب مشترك بين البشر كافة ألا وهو " جانب العقل "
فالسعادة هي مطلب بشري أينما كان الإنسان وفي أي زمان ولكن يختلف المثاليين عن الدينيين بأنهم لا يعتبرون أنفسهم أصحاب الأخلاق الحقيقية المطلقة وأن الذي سيخالفهم هو كافر وداخل إلى النار لأنه قد كفر بمعتقدهم وبكتابهم المقدس وهم لا يدّعون الأحقية والأسبقية في امتلاك الأخلاق كما يرى الدين.
والأخلاق النسبية: هم فلاسفة المذهب الوضعي التجريبي الذين يرفضون التسليم بوجود قواعد كلية ثابتة ومطلقة يسير بمقتضاها السلوك البشري ويمثل هذا الاتجاه أوغست كونت.
- ومن خلال الأخلاق النسبية والمطلقة لدينا نظرة:
إن تاريخ الحضارة الإنسانية حافل بالقواعد الأخلاقية والمعايير الاجتماعية التي تتغير من حضارة لأخرى والمتغيرة بتغير الظروف وهنا تتجلى التطبيقات النسبية التي تتمثل في مختلف قواعد السلوك الأخلاقي ومن خلال ما تقتضيه ظروف الواقع الاجتماعية والاقتصادية ولكن مهما تنوعت الشرائع الأخلاقية لابد من أن تستمد أصولها من قاعدة أولية هي احترام الشخص البشري وتقديس القيم الإنسانية.
أعود لأؤكد بأن القيم الأخلاقية من: صدق وأمانة وإيثار وحب الناس هي واحدة لا تتغير ولكن الدين يدعي امتلاك الأخلاق عندما يقول: الدين عند الله الإسلام أو الدين عند الله المسيحية أو الدين عند الله اليهودية ....
ولكن في أي دين هي الأخلاق الصحيحة؟
ألا تكون تلك الأخلاق التي يتكلم عنها الدين هي أخلاق واحدة ولكن الشرائع الدينية والأسماء والوجوه والكتب هي التي تتغير .. طالما أن الدين يقول أن الأخلاق مصدرها واحد أي الله, إذن لماذا يوجد أديان بدل من دين واحد على اعتبار أن المصدر واحد؟
هل الصدق في الإسلام يختلف كتعريف عن الصدق في المسيحية؟ وطالما أنه لا يختلف لماذا إذن هناك كل هذه الأديان؟
و في نهاية المقالة أنقل لكم هذه الأبيات التي تحاول أن تستنطق الكتب الدينية وهي من كتاب " آراء الدكتور شبلي شميل ":
أهل الكتاب ألا أجبتم سائلاً ** ماذا رأيتم في الكتاب من عبر
هذيان موسى أم سخافة محمد ** أم ذل عيسى في افتداء البشر
* * *
نبي الإفك تدعونا ** بإرهاب لكي نرغبْ
تقول المرء كذاب ** وربك قبله أكذبْ
يمنّنا ويمنونا ** بما أسدى وما أوجبْ
فأين الخير في الدنيا ** وأين الأمن في المذهبْ
ديانات خرافات ** وقصد الكل أن يركبْ
تعريف بشبلي شميل :شبلي الشميل: طبيب وعالم وفيلسوف وأديب ومفكر.. لبناني
من طلائع النهضة العربية. عُدَّ الأب الروحي للفكر الاشتراكي العربي.
ولد عام1860م وتوفي عام1917م. لُقب بـ: الثائر المتطرف.
قال الكاتب العربي إسماعيل مظهر ــ وهو معاصر للشميل
عندما وقعت نسخة من كتاب الدكتور شبلي فلسفة النشوء والارتقاء ..
أحدث في فكري انقلاباً رائعاً عجزت اللغة والكلمات عن وصفه.
ووصفه رئيف خوري في كتابه ..الفكر العربي الحديث بـ: فلتة زمانه