وكان موضوع الفصل الثاني مكملا للأول من خلال معالجته للجانب الخارجي من أزمتنا الحضارية والمتمثل في دور الاستعمار في إعاقة حركة النهوض الحضاري للأمة فهو الآخر تم تقسيمه إلى ثلاثة أقسام. بحث في بدايته دور الاستعمار في تلغيم الثورات من الداخل من خلال إدخال مجموعة من المتغيرات تساهم في الانحراف بها عن هدفها الرئيسي, كما يقوم بخلق ثورة مضادة تكون في ظاهرها تحمل نفس مواصفات الثورة الأصيلة إلاّ أنّ حقيقتها هي المحافظة على المصالح الاستعمارية وإجهاض الثورة الأصيلة من خلال إبعادها عن مسارها الصحيح. أما دوره في مرحلة ما بعد الثورة: - فيتمثل في السعي لمصادرة الاستقلال وذلك من خلال اللعب على وترين أساسيين وتر التفكك ونشر الرذيلة وتفكيك شبكة العلاقات الاجتماعية من خلال محاربة القيم الأخلاقية العليا, ووتر السعادة الوهمية بنشوة الانتصار المؤقت والتي تؤدي بصاحبها إلى حد السكر والإغماء, وبذلك تصبح كلمة استقلال بلا معنى, أو مجرد مفردة في القاموس لا علاقة لها بالواقع. وبعدها بين دوره في اختراق الممارسة السياسية واحتوائها لغرض توجيهها وفق مصالحه التوسعية التي تقوم على إلغاء الآخر.لينتقل بعدها من الممارسات الاستعمارية التي تقوم على أساس القوة إلى الممارسات التي تقوم على أساس الصراع الفكري وبينا من خلالها بعض الخطط العلمية التي يعتمدها الاستعمار لتحطيم الأفكار والمشاريع النهضوية الجادة والفعالة.
1- التلويح بالمنديل الأحمر واستخدام الأضواء الموجهة:يقوم الاستعمار بين الفينة والأخرى باستفزاز الشعوب المستعمرة إلى حد الهيجان مما يدفعها إلى السباحة في أمواج الغضب والانفعال والعشوائية في التصرف فتفرغ بذلك كامل طاقتها من دون أن تحقق أي هدف لصالحها.
2- عزل الشعوب المستعمرة عن المجتمع العالمي:يدفعنا الاستعمار من خلال استفزازاته المتتالية وردود أفعالنا غير المعقولة وتوجيه الأضواء الكاشفة نحوها لتقديم صورة سيئة ومزيفة عن حقيقتنا للرأي العام العالمي, فنعيش منعزلين عن العالم الخارجي إمّا كمتهِمين للآخر أوكمتهَمين من طرفه.
3- خلق وحدات كفاح جزئية:وذلك بالقيام بعمليات استباقية يخلق من خلالها تكتلات صغيرة لمواجهة وحدة الكفاح الشاملة, وبسبب التنافس والخلاف بين هذه الوحدات أو التكتلات تنحرف المعركة عن طبيعتها فيتنازع أبناء الوطن الواحد أو الدين الواحد أو التيار الإيديولوجي الواحد فيما بينهم, ويلجأون للاستقواء بالاستعمار على بعضهم البعض بدل توحيد الصفوف لمواجهته.
4- توفير الحماية لداء التعصب ورفض النقد الذاتي:تشجيع التعصب للأنا سواء كأفراد أو كجماعة, وهو ما أنتج الجدل حول مسائل لامعنى لها في حياتنا اليومية, أوأنها ليست جزءا من تحديات واقعنا المتخلف.
وبعد تشخيص الحالة المرضية للأمة سواء من خلال أعراض مرحلة الانحطاط أو من خلال العلاقة غير المتوازنة مع الآخر يقترح مالك بن نبي مشروعا بديلا لتجاوز هذه المعوقات, ويقوم هذا المشروع على مجموعة من الأسس و المقومات تتمثل فيمايلي:
1)- بناء شبكة العلاقات الاجتماعية الممزقة: - إذ يجب على المجتمع أن يقوم بجهود تربوية تغرس في ذات الفرد النزوع إلى الجماعة والتخلص من النزعة الفردانية ذات التأثير السلبي على الانسجام الاجتماعي.
2)- توجيه الفعل السياسي وأخلقته: - وهذا يستدعي ضرورة مراجعتنا لتصوراتنا النظرية وسلوكاتنا العملية, اتجاه مسألتي الحق والواجب, بحيث يجب أن نؤسس فلسفة نهوضنا على أساس القيام بالواجب عن قناعة والمصحوبة بالشعور بروح المسؤولية.
- وتحقيق انسجام عمل الفرد مع عمل الدولة:- من خلال العمل على رأب الصدع وتقليص الهوة الموجودة بين الحاكم والمحكوم بتوجيه نشاطات كل منهما إلى اتجاه موحد تتجانس فيه جهودهما وتتكامل, فالفعل السياسي لن يحقق نجاحه إلاّ إذا تبناه أفراد المجتمع, في إطار تعاون وتفاعل إيجابي بين عمل كل من الدولة والفرد.كما يجب ربط السياسة بالأخلاق والعلم: - وذلك باستبعاد التحايل والخداع والمكر من الممارسة السياسية, وربطها بقواعدها العلمية التي تراعي الجوانب الفكرية والنفسية والاجتماعية المعبرة عن خصوصيات الأمة. وبالموازاة مع ذلك يجب العمل على توفير الوقاية والحماية للمنجزات المحققة.
3)- إعادة تفعيل الدور الاجتماعي للدين:- ويدعو ابن نبي إلى ضرورة إرجاع الفاعلية الاجتماعية للعقيدة من خلال معالجة ظاهرة الانفصام المرضي الذي يعيشه المسلم المعاصر, ولعل الحل يكمن في تأسيس علم جديد يسميه ابن نبي "علم تجديد الصلة بالله" وظيفته أن يُشعر المسلم بوجود الله وليس أن يُبرهن له على وجوده.
4)- بناء الإنسان الجديد غير القابل الاستعمار- وتكمن وظيفة هذا الإنسان الجديد في التعرف على ذاته من دون نكران لها ولا تمجيد, وإنّما بعقلانية الممحص والناقد الموضوعي, كما يجب عليه أيضا أن يتعرف على الآخر من دون عقدة رفض ولا عقدة انبهار, وإنّما بمعرفة موضوعية تُظهر حقيقة الآخر بإيجابياته وسلبياته. ليجد بذلك مكانه المناسب في خريطة التطور الحضاري للمجتمعات والأمم. وبعدها يسعى لتعريف الآخر بنفسه, من خلال البحث عن آليات التواصل معه, ومحاولة معرفة حاجات الإنسانية لغرض خدمتها.
5)- التأسيس للعمل المنهجي: - كما يدعو بن نبي إلى توظيف المعرفة العلمية كأداة للنهوض وتجاوز تلك المرحلة التي تكتفي بالعلم كمظهر أو وسيلة لكسب القوت.
- ويقترح ابن نبي تأسيس علم اجتماع خاص بمرحلة ما بعد الاستقلال ليكون أداة رقابة لممارسة النقد الذاتي من جهة واستشراف المستقبل من جهة أخرى
6)- الواقعية والإبداع لتجاوز التقليد: - نجاح العمل التغيري مرهون بانطلاقته من الواقع المعيش كأرضية أساسية للتصورات المرتبطة بحل المشكلات التي تعانيها الأمة, فتضافر جهود جميع أفراد الأمة لتحقيق متطلبات واقعهم والإجابة عن أسئلة حاضرهم هو الأداة المثلى لتجنب القفز على الواقع.
7)- تحقيق الفعالية: من خلال ربط الفكر بالعمل: - فعلاج الجدل العقيم والخطابة الجوفاء يكون بالجمع بين العلم النظري والعمل التطبيقي أي ربط العلم بأهداف عملية معبرة عن متطلبات الواقع.
وأما عن نتائج الدراسة ـ يقول الباحث ـ أن قضائي ثلاث سنوات في رحاب فكر مالك بن نبي قد غير لديّ الكثير من المفاهيم حول حقيقة الذات وطبيعة علاقتها مع الغير والله والعالم،ففي مقابل تلك الأمراض الداخلية التي ظلت تنخر جسد الأمة فكريا ونفسيا واجتماعيا, نجد حاجزا خارجيا يتمثل في الاستعمار الذي يرفض أن يتحول العبد إلى سيد يتخذ قراراته بكل حرية ومسؤولية, كما يرفض تعدد أقطاب الحضارة الإنسانية ومراكزها. وهذ ما يستدعي ضرورة إنشاء مراكز بحث واستشراف تبحث في آليات الصراع وكيفية تجاوزها أو مواجهتها بهدوء لنصل على الأقل إلى مرحلة التوازن في مجال الصراع الفكري. بالاضافة إلى بناء الإنسان الجديد القوي بمعرفته لذاته ولغيره والمدرك لدوره والمؤمن بأهمية رسالته, ولا يكون هذا إلاّ بالتركز على التجديد والتغيير فيما يتعلق بالجانب النفسي لأنّ معجزة التغيير مستوطنة في نفسية الفرد لا فيما يحيط به من وسائل مادية.وطريق النهضة حسب ابن نبي يمر عبر شارع الواجبات المقدسة في ضمير كل فرد من أبناء الأمة, فالشعب الذي يريد التحضر يعمل ويجتهد في كل يوم وفي كل دقيقة وفي مختلف مجالات حياته. ودخولنا للمجتمع العالمي وضمان مكانة محترمة بين الأمم يفرض علينا أن نسلك طريقا جديد لم يسلكه غيرنا وأن نقدم للإنسانية بعض الحاجات التي افتقدتها في عصر العلم والمادة رغم أنّها في أمس الحاجة إليها.كما يجب أن ندرك أن كل فكرة تودع في التربة ستتحول إلى مشروع ثقافي مجسد في الميدان إن هي وجدت الأرضية الملائمة واللحظة التاريخية المناسبة.
https://2img.net/r/ihimizer/i/img005qmx.jpg/